كَثُرَ استعمال كلمة "فشل" في وصف الحالة الفلسطينية وما آلت إليه؛ فمن فشل التسوية إلى فشل "المشروع الوطني"، ومن إفشال التحول الديمقراطي إلى فشل الجمع بين "السلطة والمقاومة"، ومن فشل "فتح" في المحافظة على هيمنتها، إلى إفشال "حماس" في إثبات الجدارة بوصفها بديلًا محتملًا. القوى اليسارية والديمقراطية لم تكن استثناءً، فلم يمر سوى بضعة أشهر على تشكيل "تجمع ديمقراطي" حتّى انفرطَ عقده، وأُفشل في تحقيق الرهان عليه!
للفشل أسباب موضوعية، إضافةً إلى الأسباب الذاتية التي قلّما يتوقف عندها العقل السياسي الفلسطيني. هذه المقالة قراءة نقدية للمحاولة الفاشلة التي جمعت قوىً خمس[1] في تجمع قيل إنَّه ديمقراطي، ولم يلبث أنْ افترقت أطرافه عند أول منعطف.
فور الإعلان عن تأسيسه، كتب د. ماهر الشريف على صفحته في الفيس بوك "ينبغي على جميع اليساريين والديمقراطيين الفلسطينيين توفير شروط نجاح هذه المحاولة الجديدة لبناء التجمع الديمقراطي الفلسطيني "، مستذكرًا عبارة الراحل أبا علي مصطفى "يا رفاق، مش مسموح لنا نفشل، ممنوع نفشل"، للأسف لم يسمح الرفاق بالفشل فحسب، بل ربما سعى بعضهم إليه سعيًا، وسوف أعرض سياقات عامة لهذا الفشل:
أولًا: استراتيجيات الاقتلاع والتشريد، الفصل والتقييد، أورثت الفلسطينيين تشظيًا وتفتتًا. مجتمعيًا جدلية التفكك والبناء، وعلى مستوى نظامهم السياسي عاشوا جدل الوحدة والانقسام؛ ولذا جاهدوا من أجل بناء هوية وطنية واحدة، وإقامة كيانية سياسية. في غضون ذلك، واجهوا انقسامات عدّة، بتأثير: (أ) اختلاف الاختيارات السياسية والأيديولوجية. (ب) الطبيعة التقليدية لمجتمعاتهم والمجتمعات التي عاشوا في كنفها. (ج) الاحتلال الإسرائيلي الإحلالي والاستيطاني. (د) صعود التيار الإسلامي وبروز أزمة السياسة العضوية. لذلك؛ تُعدُّ "التجزئةُ" قاعدةً، بينما "الوحدةُ" استثناءً!
ثانيًا: مع نشأة السلطة الفلسطينية تشكَّل حقل سياسي ضم ثلاثة تيارات متصارعة ومتفاعلة؛ وطني غالب نجح في إعادة إنتاج هيمنته، وإسلامي صاعد، ويساري ديمقراطي مشتت ومتراجع. دخلت هذه التيارات في صراع وبناء تحالفات على الهيمنة والسيطرة على المجتمع والنظام.
انفتح الحقل على مؤثرات إقليمية مقررة وشديدة الأثر، بما في ذلك سلوك دولة الاحتلال. في غضون ذلك، راجت صناعة الوهم، وتوقفت مسيرة التحول الديمقراطي، وانحرف الجميع عن الأجندة (الصراع على السلطة)، ووقع الانقسام، وذوت الجذور الشعبية لليسار والقوى الديمقراطية، واستقطبت قُواه ومكوناته على طرفي جبهة المواجهة بين "فتح" و"حماس" أو بين حكومتي رام الله وغزة.
اشتملت أجندة القوى اليسارية والديمقراطية على ثلاث قضايا كبرى؛ الاستقلال الوطني، والدمقرطة، والعدالة الاجتماعية، غير أنَّها فشلت في أنْ تبرز في ذلك تباينًا فعليًا عن الحركتين الكبريين؛ فهي إذ طالبت بتجاوز أوسلو، سعت بكل قوة للاندراج في منطقه ومؤسساته، في مقابل أنموذج "فتح"، طرحت "حماس" بديلها الواضح، بينما ترنحت قوى اليسار بين هذا وذاك دون تميز أو كبير اختلاف، لا في المضمون ولا في الأساليب ولا في الاستراتيجيات ولا في الممارسات.
ثالثًا: يصعب الوقوف على أسباب ما يعرف بأزمة اليسار الفلسطيني، والتي تُعِدُّ تشكيل التجمع أحد محاولات التغلب عليها، وانهياره دليلًا عليها. هناك مَنْ يرد الأزمة إلى سياقها العالمي ارتباطًا بانهيار المنظومة الاشتراكية وبروز العولمة، وهناك مَنْ يردها إلى انهيارات النظام العربي المتتالية. فلسطينيًا يُؤرَّخ لبروز الأزمة بنشأة السلطة الفلسطينية وصعود الاتجاه الإسلامي، وتاليًا بانقسام النظام السياسي بين قطبين رئيسيين على خلفية التجزئة والفصل الديمغرافي والجغرافي.
في عجالةٍ يمكن توصيف هذه الأزمة باعتبارها أزمة تجنيد وتجديد (ضعف القاعدة الجماهيرية مع تهافت فكري)، أزمة تماسك حزبي (الصراع على النفوذ داخل التنظيم والقيادة)، أزمة ديمقراطية (المركزية وهيمنة القيادة "أقلية متحكمة"). وفي الوقت ذاته؛ يقف على رأس معظم تنظيمات اليسار قيادات محترفة العمل السياسي ومتفرغة له، وتعتاش منه، وتستمد قيمتها الاجتماعية من احتلالها مواقع نافذة في هرم قيادته.
سلوك هذه التنظيمات ومواقفها بوجه عام لم يكن بالضرورة محكومًا بالتطابق مع المرجعيات الفكرية المعلنة. تنظيمات اليسار وقد تراجع حرصها على التمايز الأيديولوجي لم تعقلن ممارساتها السياسية، وتعرضت إلى أزمة هوية؛ أي انعدام قدرة التنظيم على تعريف ذاته من منطلق أيديولوجي أو فكري محدد، التباس شديد بين الأيديولوجيا المتبناة وبين الاختيارات السياسية الاضطرارية أو الممارسات الواقعية.
لم يعد اليسار يصوغ المخيال السياسي اليوم، وإنَّما الإسلاميون. اليسار لم يعد قادرًا على تزويدنا برؤية للعالم، رؤية تسمح لنا بفهمه وتغييره في الوقت نفسه. اللغة التي يستخدمها لغة مقطوعة الصلة بعالمها، وليس لها قيمة تفسيرية!
شكَّلت الطبقة الوسطى الرافد الأساسي للحركات اليسارية والديمقراطية، وهي لا تملك تجانسًا كبيرًا أو حتّى وعيًا طبقيًا خاصًا يجمعها؛ مما أضعف إمكانية فعلها السياسي التغييري. لم يطرح اليسار أنموذجًا جديدًا للحكم وللنظام الاجتماعي، مشروعه نُفِذَ غالبًا على يد قوى أخرى (حتّى إنَّ بعض فصائله رفع وتبنى شعارات على أرضية الإسلام السياسي، مثل: كراهية الغرب، والدفاع عن الاستبداد؛ بحجة أنَّ الأنظمة المستبدة تعادي الإمبريالية، وبعضها الآخر شارك في حكومات ترقيعية)، غابت الديمقراطية عن جدول أعمال اليسار، وأعطى الأولوية للوطني على الاجتماعي دائمًا، وعظّم من تأثير الخارج مقارنة بالديناميات الذاتية، ومع اندغام العنصر المثالي مع العنصر المصلحي في خطاب اليسار وممارساته أُنتج وعي ملتبس، واستخدمت الأيديولوجيا في التغطية على غياب المشاريع، وليس في تأويلها أو تعبئة الجمهور حولها أو حتّى في تبريرها. وسواء تعلق الأمر بمشروع تحرري أو بمشروع نهضوي أو حتّى تنموي، لا توجد سوى تعميمات نظرية ومقولات مبتورة من سياقها المعرفي، وشعارات منفصلة عن واقعها الموضوعي.
على هذه الخلفية؛ يمكن استعراض صيرورة تشكل التجمع الديمقراطي وعوامل الضعف الكامنة، ومن ثم أسباب فشله المعلنة، وذلك بشيء من التفصيل:
في ماهيّة التجمع:
هل هو جبهة يسارية أم تيار ثالث لطالما انتظره الكثيرون؟ يقول أحد مؤسسيه "الحديث عن التجمع هو حديث عن ائتلاف، وليس عن إطار موحد".
هناك عدم وضوح حول التركيبة التي حاول بعض القائمين على التجمع "تصميمها" والتنظير لها؛ بينما حاول البعض الآخر رفضها ونقدها؛ وهي محاولة الجمع بين كون التجمع "تيارًا ثالثًا" وبين كونه "تجمعًا أو جبهة يسارية".
"التيار الثالث" في السياق العربي؛ محاولة للجمع (أو التوازن) بين تيارين رئيسيين: الليبرالية السياسية والراديكالية الاجتماعية. عمليًا تقع كل القُوى التي تروم تشكيل التيار الثالث أو تنتمي إليه نظريًا بين قوتين: الأنظمة الحاكمة بتنويعاتها، وبين تنظيمات الإسلام السياسي بأطيافه.
فلسطينيًا، "التيار الثالث" عبارة عن محاولات لتأسيس "قوة سياسية" تضمن توازن النظام السياسي، وتقلل من حدة الاستقطاب فيه، وربما تكون الصيغة التنظيمية للتجمع سببًا في سرعة انهياره، حيث اعتمد المؤسسون "البنية المفتوحة" التي تضم عناصر يسارية وأخرى ديمقراطية وشخصيات مستقلة ومؤسسات مدنية، دون تركيز على الأيديولوجيا وإنَّما الاكتفاء ببرنامج سياسي توافقي.
تبقى هوية التجمع أحد أبرز إشكالياته؛ فإذا كان "التجمع" علاجًا للأزمة الوطنية العامة، فالحاجة عندئذ لتأطير الكتلة الجماهيرية الضخمة (حوالي 30-50% من جمهور الناخبين)، وهي تتطلب تجمعًا وطنيًا عريضًا وفضفاضًا. الافتراض بأنَّ الإجابة عن التحديات الوطنية الكبرى ذات الطبيعة السياسية لا تتطلب اصطفافات على أساس أيديولوجي، وإنما البحث عن قواسمَ سياسية مشتركة؛ لهو افتراض غير صحيح.
في الهدف:
راهن القائمون على التجمع على بناء جبهة وطنية عريضة لا مجال للمحاصصة أو الهيمنة فيها، تكسر القطبية الثنائية، وتقدم أنموذجًا مختلفًا للجمع بين مهام التحرر والبناء. هذا؛ وراهن آخرون على أنْ يشكل التجمع بديلًا تاريخيًا بالمعنى (الطبقي) لليبرالية الفاسدة والإسلام السياسي، يستوعب الحركات الاجتماعية الجديدة والمنظمات القاعدية نوما تضمه من شباب ونساء. كثرة الرهانات شكَّلت مقتلًا للتجمع.
في الفكر والبرنامج:
اشتمل البرنامج السياسي للتجمع على ثلاثة محاور: وطني، اجتماعي، ومحور الدفاع عن الحريات العامة وتعزيز الديمقراطية. لم يأتِ البرنامج بجديد سياسيًا ولا ديمقراطيًا، أما اجتماعيًا؛ فقد ركَّز على حقوق العمال والسياسات الضريبية، وأولويات الإنفاق العام، وحقوق النساء.
جاء البرنامج تعبيرًا عن توافق سياسي يشوبه بُعد المسافة في المواقف تجاه أبرز القضايا الوطنية، لم يتجاوز العموميات التي سمحت لمكوناته أنْ يأخذ كُلٌّ منها موقفًا مغايرًا. ثمة مَنْ يرى أنَّ مواجهة التحديات التي طرحها البرنامج تحتاج إرادة سياسية ووحدة وطنية، وفعلًا شعبيًا تراكميًا وليس تجمعًا ديمقراطيًا ملتبسَ الهوية والهدف.
في التنظيم والقيادة:
لم يكشف التجمع عن بنية صلبة تشكل ثقلًا تنظيميًا قويًا، ولم تتطور صيغته الائتلافية إلى حالة تنظيمية أرقى. ظل البعض يردد أنْ ليس بالضرورة أنْ يتشكل التيار الثالث ضمن حزب أو إطار أو شكل تنظيمي ما، كما أخفق المؤسسون في الاتفاق على آليات إدارة التجمع الداخلية (آليات قيادية ديمقراطية وتمثيلية واضحة).
ظل التجمع يعاني من هيمنة قيادات تاريخية هرمة، وبالتالي؛ عدم القدرة على استقطاب الشباب، وأيضًا ضعف القدرة على الحشد الجماهيري، كما لم يتغلب التجمع على العصبية التنظيمية لدى أعضائه.
كان من المتوقع أنْ تسمح الصيغة الائتلافية بالتباين والاختلاف بما يثري موقف التجمع ويعزز دوره، لكنها تحولت إلى آفة سرَّعت من الانهيار.
تشكو معظم قيادات التجمع من "اضمحلال شعبيتها"، ومن انخراط بعضها ضمن أنساق السلطة أو المعونة الخارجية أو المحاور الإقليمية، ويميل معظمها للمحافظة على الوضع القائم الذي يُؤَمِّن مصالحها في ظل فقرها المعرفي وخوفها من السلطة أو طمعًا في منافعها، كما ساهمت في ضرب الثقافة والسياسة بوصفهما ركائز الهوية، وحقولًا للممارسة الناشدة للحرية، فأما السياسة؛ فقد باتت سياسة زائفة، وأما الثقافة فأضحت مجرد لغو (ترويج وتعميم أفكار مسطحة، وتعميمات منمذجة).
أسباب أخرى للفشل:
في أعقاب الإعلان عن تشكيل التجمع، كتب كثيرون حول شروط وضمانات نجاح التجمع، وفي تقديري أنَّ عدم الالتزام بها يفسر سرعة انهياره والسكوت عن هذا الانهيار، وهذه عينة منها:
(1) برنامجيًا وعمليًا: تطوير رؤية التجمع وبرنامجه واستراتيجيته يتطلب مشاركة واسعة من الجمهور، وفتح حوار معمق حول القضايا، ومشاركة الشباب، وعدم رفع سقف التوقعات، والإكثار من الفعل والتقليل من القول، والنزول إلى الشارع، وتبني قضايا الجمهور التي يعاني منها، والتعلم من التجارب السابقة ومن تجارب الآخرين، ووضع خطة تحرك واضحة ومحددة، وبلورة الاتفاق على بعض القضايا المهمة والحساسة تضمن توسيع مساحة الالتفاف الجماهيري حول التجمع.
(2) تنظيميًا: الإسراع في عقد مؤتمر التجمع، وانتخاب قيادة مسؤولة لإدارته، وتجاوز حالة التجاذب القيادي الراهنة، وإقرار لائحة داخلية تنظّم عمل الأُطر والهيئات، وتوفير البيئة التنظيمية التي تُشجّع آخرين على الانضمام للتجمع مع تحديد آليات العمل وضوابطه بعيدًا عن الشخصنة والإقصاء، والحد من دور المنتفعين وأشكال النضال المكتبي، وتغليب المصلحة الوطنية العامة على المصالح الحزبية.
[1] الجبهتان الشعبية والديمقراطية، وحزبا الشعب وفدا، وحركة المبادرة الوطنية.