Menu

ناجي العلي وحنظلة الذي اخترعه ليبقى بعد اغتياله

فاروق يوسف

هل كان ناجي العلي يغار من حنظله أم يغار عليه؟ بطريقة أو بأخرى يمكن أن تكون العلاقة بين الاثنين موضع تساؤل بالنسبة إلى حنظلة هو الآخر. فقد يكون ذلك الصبي الذي لن يكبر (عمره كان دائما عشر سنوات) هو الذي اخترع ناجي بالقوة نفسها التي كان ناجي قد ورطنا من خلالها به فصار جزءا من ذاكرة الثقافة العربية البصرية.

الجزء الذي ينتمي إلى الضمير من جهة قدرته على التقاط أكاذيبنا الصغيرة واللعب بفضائحنا التي كان ناجي يسلّينا بها، من غير أن يبتسم.

لم تكن العلاقة بين الاثنين تستجيب لصفتي الصانع والصنيع دائما. فالرجل الذي لم يكن يكتم سرا كان قد أضفى على منافسه في التمرد كل صفات الابن الغاضب الذي لم يعد يطيق أن يرانا فأدار ظهره لنا.

حنظلة في المرآة

ولأن حنظلة لا ينتمي إلى سلالة الأبطال التقليديين فإنه مثلما لم يكن مشاركا في الحكاية التي كانت رسوم العلي ترويها لم يكن أيضا مجرد شاهد، مثله مثل ناجي نفسه. وجوده كائنا افتراضيا لم يقف بينه وبين أن يمارس أثره في التحريض والمعارضة والسخرية من مفردات فقه السياسة العربية الذي كان يُستعمل لغة.

نجح ناجي في تعرية أسلوبها المتحذلق. ذلك الأسلوب الذي ينطوي على الكثير من الكذب. ولكن أما كان حنظلة في لحظة من اللحظات المرآة التي حاول ناجي أن يرى فيها خفته، غير أن المرآة فاجأته حين كانت وفية لقرينه فأظهرت ذلك القرين الذي صار أكثر شهرة منه؟

نخطئ حين ننساق وراء الفكرة التي تجعل من حنظلة توقيعا لناجي. بالدرجة نفسها نخطئ حين نظن أن الاثنين كانا واحدا. كانا كذلك في لحظة مزدوجة.

يوم غادر ناجي مع أهله قرية الشجرة في فلسطين عام 1948 وكان عمره عشر سنوات ويوم ظهر حنظلة عام 1969 صبيا بعمر العشر سنوات هو الآخر. ولكن حنظلة الذي أدار ظهره لنا بعد أن شبك يديه عام 1973 كان قد انفصل عن أبيه الفني، بل انتصر عليه حين قرر أن لا يكبر.

الصبي الذي غادر قريته مجبرا بعمر العشر سنوات سيكون قادرا على العودة إلى بيت أهله بالعمر نفسه الذي غادره فيه، فيما كان ناجي عاجزا مثل أيّ إنسان آخر على القيام بذلك. كان حنظلة ورطة ناجي العلي في خياله الذي لم يعد في إمكانه أن يخلق صورة خالية من ذلك الصبي. ستكون مساحته جاهزة للنظر حتى وإن لم يظهر. وقد لا أكون مبالغا حين أقول إن التعرف على ناجي كان يتم من خلال اللقاء بحنظلة.

صار حنظلة هو مَن يقودنا إلى ناجي وليس العكس. لقد نسي الكثيرون وجه ذلك الصبي الذي يشبه صبارة صحراوية، لطالما تمنى الكثيرون أن يلمسوها غير أنهم يعزفون عن ذلك بسبب خشيتهم من أن تجرحهم.

تلك الصبارة

كان وفيا لفلسطين غير أنه لم يكن لأحد. كان هو اللاأحد بذاته. الرجل الذي اكتشف أن الفن وحده يقول الحقيقة من خلال لا انتمائه إلى جماعة بعينها.

لذلك كانت الأسرار التي تقع بين يديه هي مشروعه الذي لا يقبل التأويل. وحده كان ذلك اللاأحد الذي لم ترق له كل تلك الاستعراضات الثورية التي كانت تسمّم حياة الناس بالتهريج والترويج للثورة من خلال شعارات تبين في ما بعد أنها كانت زائفة.

كان وحيدا لأنه اختار أن يكون مثل قرينه حنظلة ذلك اللاأحد الذي لن يكون مضطرا إلى أن يضع قناعا على وجهه، كونه قد أدار ذلك الوجه عنّا ولم يعد في إمكاننا أن نراه. كم كان حنظلة ضروريا لناجي العلي من أجل أن يأنس بوحدته.

كان ناجي وحيدا مثل فلسطين، لقد عرفه قليلون، أما الأكثرية الساحقة فقد كرهت حنظلة. أكان من الممكن أن يختفي حنظلة من غير أن يُقتل ناجي العلي؟ ولكن المشكلة تظل قائمة بالنسبة إلى القتلة وإن لم يستوعبوا الدرس جيدا. ذلك لأن حنظلة ليس ناجي العلي الذي اختفى.

فلئن مات ناجي أو قتل فإن حنظلة سيظل موجودا، ليس لأنه كائن افتراضي لا يمكن الإمساك به، بل لأنه صار ضميرا لثقافة التمرد والرفض المقاطعة لسياسة المرثيات الجنائزية المكللة بالورد. لم يكن صبار حنظلة أقل حنوّا على الورد من جوقة الموسيقى التي كانت تدوس على الورد من أجل أن تستلهم صورته. وحده ابن عين الحلوة كان قد تعلم الدرس جيدا.

لم يكن لديه ما يقدمه لسوق الضحك. كان الرجل يكتب من خلال رسومه الساخرة سيرته. وهي سيرة وجعه وعاطفته وعذابه وتشرده ويأسه وشكه وارتباكه، غير أنه في الوقت نفسه كان يتخيل ما لم يقع من وقائع تلك السيرة. كل نبوءة وقعت على سطوح أوراقه كانت قد وجدت طريقها إلى الواقع بعد غيابه. كان ناجي رجل النبوءات التي سيثبتها الواقع باعتبارها بداهات عيش كئيب.

كان ناجي العلي قد اقترح طرقا للعيش في الأوقات العصيبة، لم يتعلم الرسم ولن يتعلمه.

كان مثل قرينه حنظله يفرض طريقته التي لا مهرب من اتّباعها باعتبارها وصفة كتبت بحبر سري. كان في طفولته يرسم على جدران المخيم. حين كبر قليلا صار يرسم على جدران ثكنات الجيش اللبناني حين يتم اعتقاله لأيام ومن ثمة يُفرج عنه، أما حين انتقل إلى الرسم على الورق فقد حدثت معجزة لقائه بالكاتب غسان كنفاني الذي اكتشفه ونشر رسومه في مجلة (الحرية).

يومها اكتشف ناجي أنه كان محظوظا حين فشل في دراسة الرسم. كان قدره يعده بمكانة مختلفة ستجعل منه سيد الرسم الساخر في عصره. كان تمرده أكبر من الرسم لذلك ظل متمردا عليه. بالنسبة إليه يومها فقد كان كل شيء غير الثورة عبثا، غير أنه لم يكن ذلك الشاب الذي يمكن توقعه منضبطا في إطار منظمات الثورة.

يقول “أنا غير راض عن الثورة. فلسطين في حاجة إلى ملائكة”، كان الكثير من متعهدي الثورة يعتبرونه رمزا من رموزها المؤثرة إعلاميا، غير أنه كان يعتبر نفسه رمزا للاّأحد. ذلك اللاأحد الذي كان حنظلة يمثله.

يقول “حاولوا أن يجعلوني رسام القبيلة” عن أي قبيلة كان الفنان يتحدث وقد صارت تلك القبائل كلها تعتبره عدوا لها؟ ولأنه كان يعتبر نفسه مبشّرا بالثورة، فقد كان انحيازه واضحا، وهو انحياز لم يكن مفهوما بالنسبة إلى المثقفين الذين لم ينتم إليهم إلا بطريقة مجازية.

كانت رسومه تحرجهم، بالرغم من أن البعض منهم كان يحتفظ بها باعتبارها بوصلة لا تخطئ. مشكلتهم معه وفيه أنه لم يكن يُضحك. كان يضحك وحده من أجل أن يُغيظهم حين يصفعهم بالحقيقة. لقد تدرّب على أن يكون انتحاريا عن طريق الرسم. لذلك لم يكن لديه ما يخسره. ولكن أما كان صعبا أن يُرسم الألم بطريقة لا تحيّده؟ وحدها رسوم ناجي العلي يمكنها أن تجيب على سؤال من ذلك النوع.

رسام حرر الكاريكاتير

يعترف ناجي بتلصصه على رسوم أباطرة الكاريكاتير المصري واللبناني، غير أنه كما أرى لم يتأثر بهم. يقول “لقد تأثرت بهم” وما من شيء يدل على ذلك. ربما قال جملته تلك لتأثيث وجوده في منطقة، يعرف أنها لن تقبل به نزيلا. يبدو ناجي كما لو أنه خرج من فراغ. خطوطه لا تذكر بخطوط أحد كما أن حكاياته التي تدعو إلى التأمل نادرا ما تسبب الابتسام.

لقد وهب ناجي العلي فن الكاريكاتير وظيفة جديدة، صارت في ما بعد واحدة من صفاته: أن يكون جادا وحزينا بما يلائم الواقع. ناجي هو مخترع طريقة في الرسم ونظرية في التفكير كما لم يكن هناك أحد قبله.

هل حرر ناجي فن الكاريكاتير من الضحك الأبله ليهبه رصانة البكاء الأعمى؟ ما يجب علينا ألا ننكره من أجل أن نكون منصفين أن هناك لحظة في تاريخ فن الكاريكاتير هي لحظة ناجي العلي. وهي اللحظة التي تفصل ما قبلها عمّا بعدها.لقد بدا أن كل ضحك قبلها كان مجرد تهريج وكل بكاء بعدها كان مجرد صدى. لقد قلده الكبار ولكنهم لم يتمكنوا من احتواء وإعادة صياغة دموعه. وهي دموع حنظلة التي لم يرها أحد سوى ناجي نفسه.

لقد غير ناجي العلي طريقتنا في النظر إلى الرسم الصحفي. لم يكن حنظلة حيلته الوحيدة في ذلك. كانت صورته عبارة عن مسلسل من الصور المتلاحقة. مجموعة من الوقائع المتلاحقة تضمها صورة واحدة لتكون في النتيجة خلاصة فكرة. وهي فكرة تمتد من اليمين إلى اليسار باعتبارها خطوة مشيٍ واحدة. كان ناجي العلي يمشي ليلحقنا به، أكان ضروريا بالنسبة إليه أن يتخلى عن زمنه الفلسطيني ليكون عربيا كما هو؟

الثورة عنوانه غير أنّه كان عدوا للصوصها، فقد كان ناجي مضطرا إلى أن يصنع مسافة بينه وبين الثورة بزيّها الرسمي. وإذا ما كانت الثورة هي عنوانه الوحيد فإن ثورته لم تكن قادرة على أن تجمعه بثورة الآخرين إلا في الإطار النظري العام. وهو إطار تضج به الكتب ولكنه غالبا ما يخطئ طريقه إلى الواقع.

ناجي العلي غير طريقتنا في النظر إلى الرسم الصحفي، لم يكن حنظلة حيلته الوحيدة في ذلك، كانت صورته عبارة عن مسلسل من الصور المتلاحقة

ولكن علينا أن نتمهل في استعمال المفردات. ذلك لأنّ ناجي كان قد تمرد على الواقع، بطريقة لا تقبل سو الفهم، لذلك كان على الواقع أن يقتص منه. لم تكن رسومه تكتفي بإظهار قبح ذلك الواقع، بل تندد أيضا بمَن انحرف بالواقع عن واقعيته ليجعله قبيحا.

وبذلك يكون ناجي قد صنع عدوا كان يقف على ضفتين. ضفة يدافع فيها عن واقع اعتبره الآخرون خياليا وضفة كان قد تمرد فيها على الواقع من جهة كونه خيانة. من وجهة نظرهم لم يكن ناجي واقعيا. ولكن مَن هم؟ سؤال مخابراتي كانت رسوم ناجي العلي قد أجابت عليه.

في لحظة عبث تاريخي وهب فلسطينيو الثورة رسامها صفة عدو. سيقال دائما إن جهل ناجي العلي بكواليس الثورة كان سببا في تماديه. وهو قول فيه الكثير من البلادة والفظاظة والنفاق السياسي.

فالثورة بالنسبة إلى ناجي لا كواليس لها. وهي فكرة كانت مصدر حيرة للكثيرين الذين صاروا يتساءلون “مَن أين يستمد الرسام قوته؟” ولقد اتضح حين اغتياله بأنه كان يستمد قوته من لا أحد. وهو ما كان قد فعله في الرسم تماما.

أكبر من النسيان

من غير ناجي العلي سيكون تاريخ الرسم الساخر في العالم العربي مجرد ملهاة، تطوى صفحاتها بطيّ زمانها. برسوم ناجي العلي سيكون من الصعب طيّ صفحات ذلك التاريخ.

كانت المشكلات التي عالجها ناجي برسومه أكبر من أن يحتويها زمن بعينه ليذهب بها إلى النسيان حين يأفل. شيء من ناجي سيظل يأسرنا، كما لو أنه وصية. لا أقصد هنا حنظلة الذي سيبقى صبيا في سن العاشرة إلى أن يضع قدميه على عتبة منزل العائلة في فلسطين بقدر ما أقصد الرسم الساخر الذي حرّره ناجي من الضحك الأبله. لقد حرر الرسام شفاهنا من ابتسامات لم تكن ذات معنى، حررنا من سوقية كوننا كائنات أُريد لها أن تتخلى عن كرامتها وهي تضحك، وصية ناجي العلي أن نبكي ولا نغفر الخيانة.

المصدر: العرب