Menu

فى غياب النقد الذاتى

خيري منصور

لو أن كاتبا غير امريكى قدّم من النقد الذاتى ما قدمه »جيمس سبيث« لأمريكا، لربما وجد من يؤول هذا النقد ويسىء فهمه وتفسيره ، لكن هذا الكاتب يعلن صراحة أنه يفعل ذلك لأنه يحب بلاده ويحلم بأن تكون يوتوبيا هذا القرن تماما كما فعل اخرون من قبله ومنهم هنرى ميلر والشاعر غنزبرغ وتشومسكى فهؤلاء لعنوا امريكا علنا لأنهم يعشقونها سرا ، لهذا قال ميلر أنه ينقد امريكا لأنه امريكى مئة بالمئة وليس أى شىء اخر.

وهذه مجرد مناسبة للتذكير بأن الاحتراز الذى يصل حدّ الحذر من ممارسة النقد الذاتى فى العالم العربى ، سببه اساءة الفهم ، أو الترصد ، ولا نظن ان كُتابا ً من طراز جلال أمين فى كتابه ما الذى حدث للمصريين كان يقصد رسم صورة قبيحة لوطن يشعر بالانتماء اليه حتى النخاع ، فهو يدين ما انتهى اليه المصريون فى العقود الاخيرة دفاعا عن اصالة مصر وجوهرها الذى تراكم عليه الغبار لكنه لم يبدله.

وحين كتب د. صادق جلال العظم فى سبعينات القرن الماضى ثلاثة كتب فى النقد الذاتى هى على التوالى النقد الذاتى بعد الهزيمة ونقد الفكر الدينى ونقد فكر المقاومة ، قامت اذاعة اسرائيل ببث فقرات من تلك الكتب كى تخلق أزمة ثقة بين القارئ العربى وبين اطروحات د. العظم ، رغم أن ما كتبه هذا الاكاديمى الذى تمرد على الابراج العاجية كان توصيفا دقيقا للمشهد العربى ، وبدلا من أن يكافأ على كتبه عوقب مرارا وتعرض للتكفير والتجريم والتأثيم.

ان الأب الحقيقى للطفل وليس زوج الأم أو مدعى الابوة هو الذى لا يصمت على أخطاء طفله حرصا عليه وحين يدير ظهره لما يصدر عن الابن من حماقات ويباركها فهو بالضرورة عدو لهذا الابن ، تماما كما كانت الام الحقيقية فى الحكاية السليمانية المعروفة والتى رفضت تقسيم الطفل بينها وبين امرأة اخرى ادعت انها امه .

وقد يكون من يجازف من المثقفين فى نقد ظواهر سلبية فى حياتنا حتى لو كانت بالغة الحساسية هم الأكثر شعورا بالانتماء والمسئولية ، لأن قلوبهم تحترق جراء ما يسمعون ويشاهدون ولديهم أحلام بالافضل والابهى ، انهم بعكس الطبالين والزمارين الذين يقولون بان الارض لاتدور نهارا ولكنهم يهمسون انها تدور ليلا ، فمن يلبسون لكل حالة لبوسها ليسوا امناء على البلاد والعباد لانهم يحتكمون فى النهاية الى مصالحهم الذاتية وقد يقولون ليأت من بعدنا الطوفان رغم ان الطوفان عندما يأتى سيجرف قبورهم ويغرق بيوت احفادهم واحفاد احفادهم !

ذلك الامريكى الغاضب على بلاده من أجلها قدم لائحة لم يحدث من قبل أن صدر ما يماثلها للبرهنة على تخلف الولايات المتحدة رغم انها النموذج الكامل لمن اصابهم العمى التكنولوجى والسياسى فى العالم الثالث ، واليكم عينات من تلك اللائحة :

يقول جيمس سبيث ان من العار على امريكا ان يكون فيها اعلى معدلات الفقر واعلى درجات التباين فى دخل الفرد وادنى مستويات الحراك الاجتماعى وادنى مستوى فى المساواة بين الجنسين وثانى ادنى حصيلة لاداء الطلاب فى الرياضيات واعلى معدلات القتل المتعمد واكبر عدد من السجناء نسبة لعدد السكان وادنى مستويات الانفاق على التنمية الدولية واكبر انفاق على التسلح واعلى مبيعات للاسلحة.

والسؤال هو ما الذى كان سيقال عن كاتب عربى لو انه قدم لائحة كهذه تضع بلاده فى المؤخرة ؟

اولا ، سيتعرض لتحريض المنافقين الباحثين عن كبش فداء لغسل خطاياهم بدمه وثانيا ستتولى اسرائيل او اى طرف اخر تبنى هذه اللائحة وخلعها من سياقها الذى هو ايجابى وهادف الى نقد الذات من اجل اصلاحها.

وثالثا سوف ترى المعارضات السياسية الراديكالية فى هذه اللائحة ما يبرهن على صدق خطابها وتحمل العبء كله للنظام الحاكم رغم ان بعض المعارضات يحرم فيها النقد الذاتى ، لان المعادلة فيها هى نفذ ثم نفذ اما المناقشة فهى محظور الاقتراب منها !

ان النقد الذاتى دليل عافية وليس العكس ، ولا يمارسه الا هؤلاء الذين يسعون بكل طاقاتهم الى التقويم ومضاعفة المناعة فى الدورة الدموية لاوطانهم.

ولو التزم العرب بتلك الحكمة التى توارثتها الاجيال وهى صديقك من صدقك وليس من صدّقك (بتشديد الدال) لما انتهى المشهد القومى برمته الى ما هو عليه الآن ، ولو ترجموا تلك الحكاية الرمزية عن الدب والذبابة التى حامت حول وجه صاحبه الى ممارسة ، لادركوا بالفعل ان الصديق الجاهل عدو وهو لا يدرى ، وان العدو العاقل قد يكون أسلم منه.

لكن ما يحدث هو أن الدببه تتناسل وتعيد ارتكاب الخطأ ذاته برمى الحجارة على الذباب الحائم حول وجوه السادة ، والحصيلة دائما هى ان السادة تشج رؤوسهم ويموتون اما الذباب فيطير وينجو.

واذكر للمثال فقط أن معظم مثقفى امريكا هجوا نيويورك باعتبارها عاصمة المادية والبراجماتية والحديد والاسمنت ، لكنهم فعلوا ذلك لانهم يريدونها اكثر انسانية ودفئا وليس لانهم يكرهونها ، وهذا ما عنيته بما قاله هنرى ميلر عندما سئل عن سبب نقده اللاذع لامريكا فاجاب انه امريكى جدا.

وما كان لناشط من طراز جيرى روبين زعيم جماعه اليبيز فى ستينات القرن الماضى أن يسخر من امريكا ويسميها امريقا لولا حرصه على دماء ابناء جيله وعلى سمعة بلاده اثناء الحرب على فيتنام لانه قرأ يومئذ ما كتبه ماكلوهان عن افتضاح الصورة للجريمة ، وأن امريكا كانت بتلك الحرب تخون وصايا روادها وتحول قصائد والت ويتمان الى حمائم محشوة فى الصواريخ.

ازف الوقت لكى يعاد الى النقد الذاتى اعتباره لانه احساس بالمسؤولية الوطنية اولا وقرع لاجراس النذير ثانيا قبل ان يصبح التدارك مستحيلا وتقع الفؤوس كلها فى الرؤوس والمثير بحق ان هناك منابر وقنوات فضائية تنتزع من خطب زعماء وكتابات مثقفين فقرات فيها نقد ذاتى ثم تخلعها تماما من سياقاتها الاصلية وتحولها الى ادانات لمن كان لهم الفضل فى الاعتراف بالحقائق ، ولم يشاؤوا خداع شعوبهم بحيث يصورون الغراب حمامة ترتدى ريش السهرة الاسود فى الحفلات السياسية التنكرية.

اخيرا ان تغطية الجراح والدمامل باعتبارها عورات دون تضميد ينتهى حتما الى التسمم والبتر والموت !

والاعلام الاكثر نقدا لمجتمعه هو الاصدق والانبل شرط ألا يتجاهل ما هو جدير بالثناء!

المصدر: الأهرام