Menu

في ذكرى الحكيم.. بين البطل الفرد والبطل الجمعي

نضال عبد العال

خاص بوابة الهدف

ثمّة قادة استثنائيّون يمرّون في حياة كل شعب من الشعوب، وخصوصًا تلك الشعوب التي تمر في مرحلة النضال من أجل تحررها الوطني، قادة يحملون على كاهلهم قضية تحرر شعوبهم من الظلم والاستغلال والاستعمار. ولأن الشعب الفلسطيني من بين هذه الشعوب التي خاضت منذ سنوات طويلة الكفاح التحرري ضد المشروع الصهيوني، كرأس حربةٍ للمشروع الإمبريالي في المنطقة والعالم؛ فقد تقدم قادةٌ كبارٌ الصفوفَ مُتخلّين عن امتيازاتهم الشخصية، حاملين راية الكفاح بحماسهم وعنفوانهم وإيمانهم بحقوق شعبهم، مستندين إلى ما لديهم من فهمٍ عميقٍ لطبيعة العدو ورؤية واضحة لطبيعة الصراع، فشقّوا مرحلة تاريخية من الكفاح الوطني والقومي والأممي، وسمت بسماتهم وخصالهم وحضورهم، فصاروا تجسيدًا حيًّا لأسطورة البطل النموذج والقائد الفذّ، أيقونات خالدة تستدعي حنين الأجيال اللاحقة.

إنّ موضوع الحنين إلى الماضي، وتحديدًا الحنين إلى القادة المؤسسين، هو إشكالية بحاجة إلى تفكيكٍ وسبرٍ لأغوارها، لأنها تتجاوز مسألة تمجيد وتخليد هؤلاء القادة الكبار، تقديرًا ووفاءً لهم ولدورهم الاستثنائي، أو الحاجة إلى العودة إليهم وإلى تراثهم بين الحين والآخر في مراحل زمنية لاحقة من النضال، نظرًا إلى صفاتهم الشخصية الفذة وبصيرتهم الثاقبة التي تتجاوز مرحلة زمنية معينة.

في الحقيقة، ما نريد التركيز عليه في هذه المقالة ونقاشه، ينطلق من أن مسألة الحنين إلى القادة السابقين- أمثال الحكيم جورج حبش وأبو علي مصطفى ووديع حداد وأبو ماهر اليماني، وغيرهم من قادة الثورة الفلسطينية المعاصرة، ومن مُختلَف فصائل العمل الوطني الفلسطيني- هي حالة غير صحيّة؛ ناتجة عن أزمةٍ عميقةٍ في الوضع الراهن الذي تستعصي فيه الحلولُ، إلى درجة فقدان الثقة بمن هو موجودٌ من قادةٍ يتولّون إدارة الصراع في هذه المرحلة، فيتم اللجوء إلى الماضي كحالةٍ من الترجّي والحنين إلى رموزه، وطريقتهم في قيادة النضال الوطني سابقًا.

بدون شكٍ فإن أسباب هذه الحالة غير الصحية، ليست في القادة محلّ التمنّي والحنين، فهم قدّموا أفضل ما عندهم وكانوا بمستوى المرحلة التي عاشوها وقادوها، بتعقيداتها وتحدّياتها وما تطلّبته من إدارةٍ وحكمةٍ وكفاءة، لذلك خلّدهم شعبُهم. وأيضًا المشكلة ليست فيمن يتمنّى ويشعر بهذا الحنين إلى هؤلاء القادة، من واقع شعورٍ منه بفقدانهم وفقدان دورهم ورؤيتهم وبصيرتهم وإدارتهم وكفاءاتهم، بل إن السبب الأكبر لحالة الحنين هذه هو شعورٌ بتدنّي مستوى الدور القيادي الحالي، وهذا تعبيرٌ عن عدم الرضى والاحتجاج، بل والرفض المضمَر لما هو قائمٌ، لدور هذه الشخصيات القيادية الحالية، أو طريقة إدارتها للصراع.

في المرحلة الحالية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وتمر بها قضيته الوطنية، وهي مرحلة التصفية الكلية لحقوقه التاريخية، يجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام استحقاقاتٍ كبرى، شبيهة إلى حدٍّ كبير بمرحلة النكبة، وما تلاها من تداعيات؛ الاقتلاع والتشريد وغياب المرجعية الوطنية، وفقدان الأمل. هذه المقارنة ما بين المرحلتين بالتوجّهات الرئيسية العريضة، تضع الإنسان الفلسطيني، في تفاصيل المواقف والتحديات والأحداث اليومية، في حالة مقارنة مستمرة، بين تصرف وأداء القادة السابقين، وأداء وتصرف القادة الحاليين.

جميعًا نعيش هذه الحالة، وبشكل يومي، إزاء كل موقفٍ وعند كل محطةٍ نمرّ بها، ونترحّم على من ذهب ونسأل أنفسنا يوميًا: لو كان هؤلاء أحياء، ما الذي كانوا سيفعلونه؟ وماذا سيكون موقفهم أو رأيهم، أو تصرفهم أمام هذه المعضلة أو تلك؟

أسطورة البطل النموذجي والقائد الفذ، تتجسد فعليًا في شخصيات ودور بعض من هؤلاء القادة المؤسسين، ويضيف ذلك قيمةً إلى شخصياتهم وإلى دورهم من جهة، وإلى استمرار النضال التحرري من جهة أخرى. لكن ذلك يترسخ أكثر فأكثر حين يكون الفارق شاسعًا، بين من كانوا ومن أتى بعدهم، فتتحول الإضافة الايجابية إلى قيمة سلبية وتعبيرًا عن أزمةٍ قيادة، بل أزمةِ مشروعٍ وطنيّ تحرري يفتقد إلى دور القائد صاحب الرؤية الواضحة للصراع والفهم العميق لطبيعة العدو.

بهذا المعنى، فإن أزمة القيادة الحالية وأزمة المشروع الوطني هي في غياب الرؤية الواضحة لطبيعة الصراع، والفهم العميق لطبيعة العدو، وبالتالي غياب أساليب النضال التي تناسب هذه الرؤية وهذا الفهم، فضلأ عن تهشيم المؤسسة وتبهيت دور الهيئات القيادية، وإشغالها في متاهات التفاصيل اليومية، وتشويه فكرة التجديد وضرورتها، وتحويلها إلى ديكورٍ تجميليّ يُكرّس ذهنيةَ القيادة السائدة.

عندما تتحول الأسطورة إلى حنينٍ ماضٍ، شائعٍ لدى مختلف الفئات، من كوادرَ ونخبٍ سياسيّة ومثقفين، عوضًا عن عموم الناس العاديين؛ أي ظاهرة العيش في الماضي والغرق فيه باعتبار أن استعادته- أي الماضي- بكلّ ما فيه هو الحل، وكذلك حين يتحوّل البطل النموذجي إلى مُخلّصٍ قادمٍ من الغيب وليس من الواقع، بمعنى أنّ البديل للبطل النموذجي السابق، والمفقود حاليًا، لن يتكرر واقعيًا، وبالاستناد إلى من هو موجودٌ من قيادة حالية تفتقد الكفاءة والقدرة، على تقديم رؤية جديدة انطلاقًا من المعطيات الراهنة، واعتماد أساليب نضالية تستجيب لتحديات المرحلة، في ظلّ كلّ هذا تسودُ حالةُ الأزمةِ والدورانُ في الحلقة المفرغة، وعدم قدرة القيادة الحالية على تقديم نموذجٍ جديدٍ للبطل والقائد الفذ من جهة، وعدم القدرة على تجاوز هذه القيادة من جهة أخرى، التي تصبح بدورها جزءًا أصيلًا من حالة الأزمة، بل وتسعى من خلال أدائها الهابط، وبشكل يومي، إلى تكسير البنيان المؤسسي الذي أوجده القادة المؤسسون وهو من أهم إنجازاتهم، وتكريس السلطة الفردية خارج الأصول والأعراف المتبعة.

فبدل أن تقوم هذه القيادة بواجبها في تقديم الحلول والأجوبة للمعضلات الكبيرة التي تواجه الشعب الفلسطيني؛ تُكرّس جهدها لتكسير وهدم أي بدائل يمكن أن تقدم حلولًا، لتضمن بقاءها على رأس الهرم، باعتبار أن العجز هو حالة عامة، وليس عجز هذه القيادة بالذات بسبب تدني كفاءتها.

إن تعاقب الأجيال، هو من طبيعة الحياة ومنطقها، ولا مفر من ذلك، واحترام هذه الطبيعة- وهذا المنطق- يكون بتكريس البنيان المؤسسي كضمانٍ لاستمرارية النضال الوطني، وتجديدٍ متواصل للرؤى وأساليب النضال، بما يستجيب لمتطلبات كل مرحلة، أي الاستعاضة عن الفرد في محدودية عمره الزمني وعطاءه، كبطلٍ فرديّ ونموذجٍ للقائد الفذ بالبطل الجمعي، الذي يتجاوز الفرد ولا يلغيه، وما السابقة التي أقدم عليها الحكيم جورج حبش بالاستقالة من الأمانة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلا درسٌ بأن الخلود هو للمنهج وليس للأفراد، والوفاء الحقيقي لتخليد القادة المؤسسين يكون باحترام وتقدير منهجهم والالتزام به، فهل هناك من يتّعظ؟