Menu

الولايات المتحدة وخطورة القادم ما بعد فلويد

محمد أبو شريفة

نُشر هذا المقال في العدد 15 من مجلة الهدف الرقمية

أمام الأحداث العاصفة التي تشهدها اليوم الولايات المتحدة الأميركية، والتي كانت شرارتها مقتل جورج فلويد يوم (25/5/2020 وهو مواطن أميركي من أصول أفريقية)، على يد شرطة ولاية مينيابوليس، وهي حادثة ليست سابقة على سلوك الشرطة الأميركية، فعشرات الحوادث التي يعلن عنها سنويًا وتمر مرور الكرام. ووفقًا للإحصائيات، فإن مثل هذه الجريمة تتكرر 16 مرة كل سنة، منذ خمسين عامًا، لكن هذه المرة وقعت في مرحلة حبلى بالأحداث ميزت سنة ال2020 عن سابقاتها من السنوات؛ فابتدأت بمكافحة فايروس كورونا الذي تسبب باستعصاءات كبيرة للاقتصاد الأميركي والعالمي، وفاقم المزيد من معدلات البطالة، وتصاعد نسبة الفقر، كما أن يوم الجريمة لا يفصله؛ إلا خمسة أشهر عن موعد الانتخابات الأميركية المزمع إجرائها في تشرين الثاني نوفمبر من العام الحالي، في وقت يشهد فيه الرئيس الأميركي تراجعًا لشعبيته حسب استطلاعات الرأي الاخيرة؛ الأمر الذي فاقم من تخبط إدارته، سواء في سلوكها الداخل أو الخارجي. كل هذه العوامل دفعت باتجاه تأزيم الشارع الأميركي واتساع رقعة الاحتجاجات لتشمل العديد من الولايات الأميركية والعواصم الأوروبية، وحينها هدد ترامب بنشر الجيش في الشوارع لمحاربة المواطنين والذين نعتهم ب"العدو الداخلي"، علمًا أن المطالبات الشعبية انحصرت بالمساواة والعدالة الاجتماعية، ولأميركا سجل دموي فاضح بالتعامل السيئ مع المواطنين ذوي الأصول والجذور الإفريقية، والذين يعانون الاضطهاد، وسوء المعاملة، حتى أصبحوا ضحايا العنف والقتل جهارًا نهارًا بالسلاح الحي، وتبرير ذلك بسوء سلوكهم وفساد أخلاقهم.

وأظهرت إحصائية نشرت العام الماضي 2019، أن 60% من الرجال السود الذين أوقفتهم الشرطة؛ أوقفوا ظلمًا وبدون أي مبرر قانوني، وأن المواطن الأميركي الأسود أكثر عرضة للتوقيف من قبل الشرطة ب75 مرة من المواطن الأبيض، ويقبع في السجن واحد من بين كل عشرة مواطنين سود.  وأظهرت الأرقام أن 37% من الأطفال السود يعيشون في فقر مدقع مقابل 10% من الأطفال البيض، حتى أن نسبة الوفيات بين الأميركيين السود؛ بسبب فايروس كورونا فاقت المواطنين البيض بثلاثة أضعاف. وأمام هذا المشهد استطاعت قوى شعبية محلية أن تملأ الشارع في محاولة منها للرد على المنظومة الأميركية بكاملها، وفي محاولة منها لإجبار تلك المنظومة على تقديم تنازلات فعلية وليست شكلية.

ويضاف إلى تلك القوى تواجد الحزب الديمقراطي على خط الاحتجاجات الشعبية في محاولة منه لتجيير الشارع الأميركي لصالحه بالانتخابات القادمة، ولكن مزاودات الحزب الديمقراطي لم تنطلِ على العارفين بتاريخ الحزبين (الجمهوري والديمقراطي)، فهما لا يختلفان في أغلب مواقفهما وآرائهما عن بعض؛ لا سيما بشأن السياسات الخارجية. وقدم أعضاء من الحزب الديمقراطي مشروع قانون للكونغرس، يهدف إلى إصلاح الشرطة في الولايات المتحدة، تحت ذريعة "أن الممارسات العنصرية ضد المواطنين السود ناتجة عن العنصرية المترسخة التي ميزت تاريخ الأمة منذ فترة العبودية!"، وقد تم اتخاذ بعض الاجراءات للتخفيف من وطأة غضب الشارع الأميركي؛ كحظر قائد شرطة سياتيل استخدام الغاز المسيل للدموع لمدة شهرًا كاملاً، وأيضًا إعلان شرطة مينيابوليس حظر القبض على عنق الموقوفين. ولكن هذه الخطوات التي لا ترتقي إلى مستوى الحدث، ولن تؤثر في بنية المنظومة الرأسمالية في الولايات المتحدة، والتي تأسست على العنف والعنصرية والاضطهاد وتهميش شرائح كبيرة من المواطنين غالبيتهم من السود. فالأجهزة الأمنية الأميركية على اختلاف اختصاصاتها ومهامها، ما هي إلا أدوات للمحافظة على الأمن والنظام وردع كل من يهدد هذا النظام، وما العنصرية والعنف والجشع؛ إلا مطلب إمبريالي لإخضاع المحتجين، ومراكمة أرباح رأس المال، وتعظيم أرباح المصارف والشركات والاحتكارات العابرة للقارات؛ عبر تقسيم المجتمع المستغل إلى طبقات للهيمنة عليه وعلى ثروات الشعوب الأخرى، وإخضاعها عبر التهديد باستخدام القوة العسكرية المفرطة. 

وفي خضم الأحداث لاحظنا ارتباك الإدارة الاميركية، مما فاقم من تخبط إدارة ترامب؛ سواء في سلوكها الداخلي أو الخارجي، ووضعت رئيسها ترامب أمام جملة من التحديات الفعلية، فقد حاول وبتعبيراته المعهودة منذ بداية الأحداث أن يصف الشارع الأميركي واحتجاجاته بمجموعة من اللصوص؛ إلا أن هذا التوصيف سرعان ما ارتد عليه، حيث حاصر المتظاهرين البيت الأبيض، مما أفضى إلى تقديم جملة من التنازلات؛ أرغمت ترامب على تقديمها على مذبح الانتخابات القادمة، والتي حاول استغلالها لدى محازبيه ومناصريه من الأميركيين ذو الأصول الأوروبية، والبيض الأكثر تطرفًا وعنصرية وروج لكاريزميته السلطوية، باعتبار أنه قائد وزعيم سياسي، يسعى لاحتواء احتجاج الشارع الذي تأجج وتجاوز الحدود الأميركية إلى أوروبا وغيرها. ولم يخفِ ترامب طوال السنوات الأربع الماضية دعمه للتيارات اليمينية المتطرفة، والتي تقدس نقاء "العرق الأبيض"، وقد أعلن سابقًا تأييده لتظاهرات عنصرية اتسمت بالعنف؛ جرت في ولاية فرجينيا بصيف العام 2017.

وبالرغم من صدور بيانات شجب واستنكار من مختلف المؤسسات الأميركية للحد من احتجاجات الشارع، وإنصاف الضحية؛ إلا أن التمييز العنصري والعنف المجتمعي والفوارق الطبقية العميقة ضد الفقراء والنساء وضد المواطنين من غير العرق الأوروبي وضد أصحاب البشرة السوداء، متجذر ومتأصل في منظومة المؤسسة الأميركية منذ نشأتها، والمواطنين من الأصول الأوروبية (الانغلوساكسونية) يتمتعون بمزايا تختلف عن باقي المواطنين من الأعراق الأخرى التي وفدت إلى أميركا في القرون الماضية، هذه المزايا تمنحهم الحصانة والتفلت من العقوبات القانونية.     

ربما تؤثر الاحتجاجات سلبًا على الحزب الجمهوري، وعلى إمكانية تجديد انتخابات ترامب لولاية ثانية؛ إلا أنه ليس الوحيد الذي تأبط لواء العنصرية الأميركية، فهو متأصل منذ عهد المؤسسين الأوائل لأميركا، ومتأصل في التاريخ والمجتمع الأميركي، وقد تم شرعنتها لتصبح مكونًا أساسيًا في بنية الدولة والمجتمع، لذلك ما شاهدناه من عنف الشرطة وممارسة العنصرية ما هو إلا نتيجة طبيعية لهذه البنية وليست سببًا. ولم تتوقف العنصرية على المستوى الداخلي الأميركي ضد المقيمين أو طالبي الهجرة أو حاملي البطاقة الخضراء، بل امتدت لتشمل سن قرارات ضد منطقتنا لتحاصر الشعب الفلسطيني والسوري واللبناني واليمني وغيرهم، وتظهر بأبشع صورها بتوفير الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني، ولولا هذا الدعم العنصري لما كان نقل السفارة إلى القدس ، ولا صفقة القرن، ولا كانت العنجهية التي يتعامل بها نتنياهو مع ملف الضم.

في الواقع تحدث الكثيرين من الاستراتيجيين والخبراء ومنظري البرجوازية وأباطرة المال والأعمال عن الخطورة الكامنة من وراء هذه الاحتجاجات، وحذروا علنًا من خطورة ما يواجه العالم الرأسمالي والنظام العالمي من فشل السياسة الليبرالية، والتي سادت العالم من بعد الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، المتمثلة باقتصاد السوق الحرة وعولمة رأسمال.