حين وقعت نكبة العام ١٩٤٨، ونكسة العام ١٩٦٧، تنبهت الشعوب العربية لحجم الضرر الذي يوقعه الفساد بشبكاته المختلفة على مناعتهم الوطنية وأمنهم القومي، فكانت هبة ثورات وتحركات التحرر الوطني العربي التي أطاحت بالنظم الملكية وشبكات فسادها المرتبطة بالمنظومة الاستعمارية الغربية، لكن نظم ما بعد الثورة اخترقتها أدوات الفساد والإفساد، كما أنتجت شبكاتها الخاصة التي قوضت قدرات الدولة والمجتمع والجيوش، وسرعان ما شكلت بوابة لهزيمة ١٩٦٧. فلم يكن الفساد يوم في جدليات تاريخ شعوب هذه الأمة ونظم حكمها، محض قضية اقتصادية أو مالية تهدر وتستلب المال العام والخاص فحسب، فبجانب دوره في تدمير القدرات الاقتصادية وإعاقة التنمية، وصناعة التخلف، شكل أداة للاستقطاب والتكتل السلطوي والمصلحي بعيدًا عن منطلقات الأمة وأهدافها، بل وعلى النقيض منها، كما دارت عملياته وتيسرت امكانياته في إطار التعاون بين الكمبرادور المحلي، ومنظومات الاستعمار وأدواتها في المنطقة، على غرار قضية الأسلحة الفاسدة التي تعاونت فيها منظومة الفساد المحلية، مع رأس المال الغربي، على تكريس وصناعة أحد أسباب الهزيمة، ولا زالت السياقات ذاتها نشطة في استلاب مقدرات الأمة ونهب خيراتها ومواردها بأبخس الأثمان لمصلحة المركز الرأسمالي، مقابل أثمان بخسة أو دون مقابل. في الحيز الفلسطيني شكل الفسدة والمتنفذين فصائل السلام التي قاتلت ضد ثورة ١٩٣٦م، دفاعًا عن مصالحها المشتركة مع المستعمر والحركة الصهيونية، وأعادت إنتاج ذاتها مرة تلو الأخرى في نماذج مثل روابط القرى وغيرها، وتمكنت من توظيف المؤسسات الفلسطينية الحكومية وغيرها كبوابات لتحقيق مصالحها، وبناء الولاءات الضيقة، ونماذج الاستزلام، وعصابات النفوذ، على حسابات التطلعات الوطنية لشعب فلسطين وأهدافه ومشروعه الوطني. وغالبًا ما وجدت حالات الفساد أفقها ومساحة بقاؤها بالتعاون مع المحتل، في ظل ما كرسته اتفاقية أوسلو واتفاقية باريس الاقتصادية من إلحاق للاقتصاد الفلسطيني بالاحتلال.
جرى فعليًا امتصاص القدرات الاقتصادية والموارد من المؤسسات، ومن عموم الفلسطينيين، وتركيزها في يد شريحة صغيرة تصر على ربط الفلسطينيين ومصيرهم بمصالحها المشتركة مع الاحتلال، وإذ يتم طرح مكافحة الفساد كمفهوم يقتصر على منع سرقة المال العام بشكل مباشر، فإن عمليات الفساد وأدواته أخطر من ذلك، وأكثر عمقًا، فعمليات سلب المال من المؤسسات وعموم الناس، تمت فعليًا بمساعدة قوانين وقرارات حكومية، وصفقات، وآليات محاباة وتستر، ولم تكن محض عملية مالية اختلس فيها موظف أو بضعة من الموظفين جزء من المال العام، فلقد شارك رأس المال المحلي الملتحق بالاحتلال مع مواضع النفوذ الفاسدة، في عملية تجميع وتركيز الثروة هذه التي نتجت عن احتكارات وعقود استثمارية، بل وقوانين ضريبية، ولوائح وأوامر تنفيذية وإدارية.
وإذ ينهض الفلسطيني ضد الفساد، مع استشعاره لهشاشة وعجز البنى المؤسساتية في مواجهة المحتل وسياساته، بل وعجزها عن توفير الحد الأدنى من عوامل وموارد الصمود لشعبنا، يتم في كل مرة ملاحقته وقمعه بحجج واهية، تدعي زورًا الدفاع عن المشروع الوطني الفلسطيني، فيما تعمل في حقيقتها في خدمة النهب والفساد، ضمن معادلات الاستفادة المالية من هيمنة الاحتلال، معادلات يسعى المحتل لتوسيعها، وتراهن عصابات الفساد على بقاءها، بل وتمددها وزيادة ريعها كلما توسعت الهيمنة الاحتلالية وتقلصت مساحات الصمود الفلسطيني.