Menu

أبو علي مصطفى| الذاكرة المستدامة لاستعادة الهيبة الفلسطينية

محمد أبو شريفة

نُشر في العدد 17 من مجلة الهدف الرقمية

منذ أن نبدأ في مسيرة حياتنا وهناك خيارات تحتم علينا أن نحدد موقفنا ورؤيتنا تجاهها منذ البداية المبكرة لها وحتى الخواتيم. في هذه المسيرة لو نظرنا لها بتجرد وبدون منمنمات سنرى أن الأمر يمكن أن يختصر ويختزل وأن يكون في هذا الموقع أو ذاك، أن تكون مع الحق أو الباطل. وبمعنى أدق أن تحدد موقفك إن كنت مع فلسطين، أي مع نفسك، أو أن تكون قد تحالفت ضد نفسك، واتخذت نفسك عدوًا بجانب العدو.

ويبدو أن تمثلات الطريق لازمت أبو علي منذ يفاعته وتبدت ‏له معالم الحقيقة، والتي سلك دربها بكل تجلياتها لينتج تجربة ‏وطنية غنية تدعو كل الأحرار والوطنيين للاقتداء بها، فلم ‏يخطئ التوجه نحو الهدف وبقي وفيًا لمسيرته الكفاحية، والتي ‏جسدت دروس ملهمة خطها بعزيمة وإصرار عبر مسيرته ‏الكفاحية الطويلة في صفوف حركة القوميين العرب والجبهة ‏الشعبية لتحرير فلسطين.‏

ومن أجل القدرة على تحديد المواقف يجب أن نميز بين ما هو مختلف وما هو ضد، كثيرون لا يميزون بين الأمرين، يتوهمون أن كل اختلاف هو أمر يجب أن تكون ضده وينسون أن الأمر يتدرج مثل بناء القلعة. وعندما لا نميز بين الأمرين نسقط في فخ محاربة كل شيء، لكن هذا الأمر لا ينطبق على كل شيء؛ هناك أشياء ما يندرج اختلافها ضمن التنوع والتدرج والتكامل، وهناك ما لا يحدث فيه ذلك؛ هناك ما يجب أن تحدد موقفًا منه، وهناك ما يجب أن تحدد موقفك ومكانك منه، لذلك كان مؤمنًا بأنه لا يمكن تحقيق الانتصار على العدو ‏بدون الوحدة الوطنية الجامعة لفصائل العمل الوطني، وقد ‏ترجمها فكرًا وممارسة انطلاقًا من وحدة الهدف والخيار ‏والمصير.‏

فضمن واقعنا اليوم؛ المثخن بجراح الانقسام الفلسطيني-‏الفلسطيني تبرز قيمة الوحدة الوطنية التي تشبث بها أبو علي ‏خاصة مع تردي وضعنا الفلسطيني وغزارة المخططات ‏الاحتلالية التصفوية للقضية الفلسطينية وعلى راسها "صفقة ‏القرن".‏ هذه أضداد كامل لا نسبي ولا تدرج فيها وعليك ان تحدد موقفك. هل تختار الحق أم الباطل؟ هل تختار الصمود أم الاستسلام؟ هل تختار أن تبقى أسيرًا للمغريات أم عليك أن تحسم أمرك، وتمضي إلى ما يجب أن تمضي إليه ولو كان في منتهى الصعوبة؟

الواقع يطلب منك أن تحدد موقفك، مما يدور حولك؛ يمكنك أن تختار ألا ترى شيئًا؛ أن تغمض عينيك؛ أن تختبئ خلف اصبعك وأن يكون حب المغريات عنوانك الدائم الذي لا تستطيع الخروج منه.

فقد آمن أبوعلي مصطفى بأن الصراع مع العدو الصهيوني هو ‏صراع تاريخي مفتوح شامل ومتشابك يستهدف الوجود قبل ‏الحدود، ويقصي الشعب الفلسطيني ماديًا ومعنويًا عن أرضه ‏التاريخية ويهدف لإقامة دولة يهودية عنصرية مدعومة ‏أميركيًا وغربيًا ومن كل بؤر الإمبريالية العالمية الذيلية، ‏باعتبار أن الدولة اليهودية المزعومة هي القلعة الغربية ‏المتقدمة في الوطن العربي، ولذلك لم تقتصر رؤية أبو علي ‏مصطفى بحصرية الصراع  بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ‏بل يمتد ليشمل الأمة العربية والعدو الصهيوني الذي يريد ‏السيطرة والهيمنة على كل مفاصل المنطقة الحيوية ‏وإخضاعها بالمطلق لأطماعه التوسعية الإمبريالية.‏

تحديات الواقع وتعقيدات المرحلة تضعك أمام خيارات أن يكون موقفك منها (بين بين)، لا يمكن أن تكون رماديا هنا، لا يمكن أن تضع قدمك في منطقة والقدم الأخرى في المنطقة المضادة. لا فصام هنا، لا يوجد أصلًا خيارًا كهذا؛ هنا ثمة قرار حاسم يجب أن يتخذ، لذلك تمسك أبو علي مصطفى بديمومة الكفاح الوطني والقومي كأفضل وسيلة ‏ممكنة لإلحاق الخسائر بالعدو، وبهذا كان مؤمنًا بالمقاومة ‏الشاملة المتنوعة وفي مقدمتها الكفاح المسلح، وليس نهج ‏التسويات والمفاوضات والتنازلات وقد أعلنها على الملأ عند ‏عودته إلى أرض الوطن (عدنا لنقاوم لا لنساوم)، هذا القرار وبهذا الاتجاه هو جزء من الفطرة الإنسانية السليمة.

طبيعة الصراع مع العدو المحتل يتطلب أن تحدد موقفًا واعيًا مدركًا بما حولك. قد تقود الحركة إلى الهلاك، أيضًا، ولكنها تحتوي على احتمالية النجاة، أما البقاء في الوضع الساكن في الراحة والمكاسب المادية فهي توقيع مسبق على رسالة الانتحار مهما طال الأمر، لذلك كان أبو علي مصطفى شجاعًا حتى النخاع في صدقه ووضوحه وانسجامه ‏مع الشعب الفلسطيني والقضية الوطنية. فلم يخف الحقيقة ‏عن الجماهير التي يجب أن تبقى شاهدة على ايقاع ما وصلت ‏إليه الحالة الفلسطينية وضرورة إحداث مراجعة وطنية شاملة ‏لمسار التجربة الوطنية وتصحيحها بما يعيد لشعبنا الأمل‏، وبما يعيد التلاحم بين التحرر الاجتماعي والتحرر الوطني للشعب الفلسطيني أينما تواجد، حيث عمل القائد أبو علي على صون حرياته وعدم التعدي عليها وتوفير مقومات الصمود الوطني وبناء المؤسسات الوطنية على أساس من النزاهة والشفافية والكفاءة؛ فالثورة بطبيعتها تتطلب هذا القرار، هذا الانتقال من مربع حب الذات والمغريات إلى ميدان العمل والمواجهة.

في ذكرى استشهاده ال19 تحضرنا سمات هذا القائد وميزاته على ‏الصعيد الفلسطيني والعربي، فالإيمان بالفكرة القومية لديه ‏هي متمم للهوية الوطنية الفلسطينية؛ فالهويتان المنسجمتان ‏إلى حد التماهي جعلت من شخصيته محل إجماع عربي ‏وفلسطيني،‏ فهو القادر على التواصل مع المحيط العربي وكل القوى ‏الاستقلالية، وفي الوقت ذاته المعبر عن الهوية الوطنية ‏الفلسطينية.‏

أدرك الاحتلال بذلك أن وجود أبوعلي مصطفى في فلسطين ‏يقود حتمًا إلى تعزيز المزيد من الدعم للشعب الفلسطيني على ‏كل المستويات من محيطه العربي.‏ فلم يكن قرار اغتياله عبثيًا، بل جاء ضمن رؤية استراتيجية ‏محددة للعدو الصهيوني، وهي الإجهاز على القيادة التاريخية ‏للشعب الفلسطيني، وذلك للتحلل من كل الالتزامات التي ‏تفرضها القضية الفلسطينية عليه.‏

وبعد 19 عامًا يبقي السؤال: هل استطاعت قوى الاحتلال من ‏النيل من الإطار الثوري الذي مثله ابوعلي مصطفى؟

‏ في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ما تزال حتى هذه اللحظة ‏على ذات الخط والنهج التي رسمته القيادة التاريخية للجبهة ‏الشعبية ودفع ثمنه من دمه القائد أبو علي مصطفى.‏

صحيح أن الواقع الفلسطيني اليوم يختلف عما هو عليه ‏بالسابق، إلا أن زخم القضية الفلسطينية سرعان ما يقفز إلى ‏الواجهة كلما تعرضت هي والشعب لمحاولة ‏الإفناء من العدو الصهيو-أميركي وبعض النظم العربية التابعة ‏والخانعة.‏

بقي أن نشير إلى أن القائد أبو علي ومنذ اللحظة الأولى في ‏مسيرته الكفاحية كان يدرك أن الشهادة والاستشهاد جزء لا ‏يتجزأ من منظومته الفكرية، ولهذا خاض الصعاب للعودة إلى ‏الوطن من أجل مهمة واحدة وهي بناء الرأس الفلسطيني ‏‏(القيادة) في بيئتها الطبيعية وحاضنتها الأم، وهي الشعب الفلسطيني.‏ لهذا ما تزال كل القوى الاستعمارية وحتى هذه اللحظة، ‏وبالرغم من كل انتصاراتها لم تستطع الإجهاز على القضية ‏الفلسطينية؛ فالقيادة التي تسُتشهد أمام شعبها تكرم دائمًا ‏بالإمساك بوصاياها والعمل عليها.. وهذا ما تحقق للشهيد القائد ‏أبوعلي مصطفى.‏