Menu

في الذكرى الثالثة والثلاثين لاستشهاد العلي

الكنيسة عند ناجي قلعة وثكنة للمقاتلين والمسجد قبلة الفدائيين

د.عاطف سلامة

نُشر هذا المقال في العدد 17 من مجلة الهدف الرقمية

د.عاطف سلامة

باحث متخصص في فن الكاريكاتير - فلسطين

حين سُؤل ناجي عن موطنه، قال: "اسمي ناجي العلي، ولدت حيث ولد المسيح بين طبريا والناصرة في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات في عام 1948(..)، لذا جاء استخدام ناجي العلي ل بيت لحم والمسيح في رسوماته، فقد التقى ناجي في فنّه مع هذا الفهم الذي يعيد المسيحية إلى جذورها ومعناها الثوري، دلاله ضد الظلم ومن أجل الإنسان، سامية عن ادعاء الطوائف واحتكار أية أطراف سياسية وكهنوتية. وأراد ناجي أن يذكر أن ملاعب طفولته بين الجليل وطبريا هي ذاتها ملاعب طفولة المسيح، علاقته الطبيعية بالأرض وقربه من الناس حلّا له كثيراً من العُقد التي يعاني منها من يتورطون مع الأفكار المجرّدة،  وما ورود بيت لحم والمسيح في رسومات ناجي، إلا لعلاقته وارتباطه بالأرض وبتحدره من قرية الشجرة المختلطة التي جمعت المسيحي والمسلم كجيران متآخين تسود بينهم المحبة والطمأنينة والسلام.

ولعل ناجي هو أول من رسّخ صورة المسيح فلسطينياً بما لفنّه من طاقة إيصال جماهيرية. عانق ناجي المسيح معانقة الطفل لجدّه، ومن خلال مجموعة من رسوماته ردّ المسيح إلى مسالكه الشرقية، بفهمه المسيحية باعتبارها في الأساس ثورة مشاعيه، انطلقت من أرضنا، ومما يدعو إلى مزيد من الإعجاب أن مسيحية ناجي الأصيلة الثورية الواسعة (وهو ابن العائلة المسلمة)، لم تخدشها عنصرية محيطٍ  كان مسيحياً بالمعنى الطائفي في سنوات اللجوء بلبنان.

فقد تجاوز وعي ناجي العلي زمنَ الميليشيات "المسيحية" الفاقدة لأي صواب، والتي عرف أذاها مثل باقي اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. العنصرية اللبنانية الموصوفة (والتي مهّدت لمذابح واضطهاد ضد اللاجئين الفلسطينيين الذين يسكنون مخيمات اللجوء هناك، لم تسلب ناجي ذرّة من صوابه السياسي والإنساني، لم يرد على العنصرية سوى بالسخرية منها وفضح بؤسها والتعالي النظيف عليها، وكشف ارتباط العنصريين بالمستغِلّين، متجاوزًا الطائفية بعنصريتها.

ناجي العلي، كسر صورة المثقف والفنان العربي العاجز، الشبيه بالسلطات العربية التي يخدمها أو "ينتقدها"، أخذ من الثقافة جوهرها وترك قشورها، تلك القشور التي لا زال الكثيرين يتشبثون بها، سعداء بذلك.

ناجي العلي كان "راديكالياً" في التمّسك بحقوق المستضعفين والدفاع عن حقوق الناس، وإنساناً لا حدود لرحابة إنسانيته، الراديكالية عند ناجي هي فائض حب وعطاء واستعداد للفداء، ومن هنا جاءت شخصية المسيح في لوحاته الشهيرة؛ لوحات الحب للمسيح المعطاء المتسامح الفدائي المناضل الذي كان دومًا يدًا بيد إلى جانب أخيه المسلم. أما اليوم فقد تمرغت منطقة الشرق الأوسط برمتها في كل الرذائل التي كان يرسم ضدّها بدءاً من الطغيان والتفريط والتبعية والتناحر الداخلي وإطلاق وحش العنصريات والغرائز الدموية.. وسائر مسمَّيات الهزيمة، وصولاً إلى (داعش) والتطرف الديني الإرهابي. وفي حقيقة الأمر أن كل ما حرّضَنا عليه ناجي العلى من خلال لوحاته المميزة التي استشرفت مستقبلنا المأساوي صار أبعد من الحديث عن فلسطين كقضية أولى للعرب وعن ومشروع التحرّر والعدالة الاجتماعية؛ سواء فلسطينيًا أو حتى عربيًا وإقليميًا، وما استخدام الرمزين، بيت لحم كرمز لمدينة المحبة والسلام بين جميع الأديان، وشخص المسيح المقاتل والمناضل العنيد ضد الصهيونية والاحتلال ودعوته للسلام، إلا رسالة استشراف من الشهيد ناجي العلي إلى كل من يحمل لواء الطائفية سواء "داعش " أو غيرها بأن: "ليس هكذا تورد الابل"، بل كونوا قدرًا لمواجهة الإمبريالية الصهيونية والرجعية العربية ولا تكونوا أدوات تنفيذ، تقومون بما يمليه عليكم سيدكم، فليس لكم إلا القتال بشراسة، ولكن عليكم أن تعرفوا كيف ولمن توجهوا فوهات بنادقكم. فالطائفية والعنصرية سيؤديان بالتأكيد إلى تشتتكم وتدمير بلدانكم وحرف البوصلة عن قضيتكم المركزية؛ القضية الفلسطينية.   
إن حاجتنا اليوم إلى فن ناجي العلي ملحة، أكثر من أي وقت سابق، ليس لأن فن ناجي العلي قرأ واقعنا مبكراً فحسب، بل لأنه أيضاً يثبت راهنية ومستقبلية عجيبة حملت حلولاً لما هو آت، وليس لأن مجمل الأفكار والقيم التي ينهض عليها فنّه هي من صميم هذه الحاجة؛ بل لأن قوّة الفن عنده تتيح لهذه القيم والأفكار أن تتحول إلى وعي وضمير وإرادة، وهو ما نحتاج إليه لتجاوز الماضي بما فيه من مآسي والنظر للمستقبل الواعد بدون دماء، وعدم حرف البندقية عن مسارها السليم الواضح الذي حدده ناجي العلي، وهو صدر العدو وكل من يقف معه وينفذ قراراته من الرجعيين المتكرشين الذين يزحفون على بطونهم. 
حماسة الكلمات وجرأة خطوط ناجي حددت العديد من التحذيرات؛ من خلال الأفكار التي جسدتها لوحاته، ففلسطين لديه من النهر إلى البحر وكرامة الإنسان العربي ومقاومة الاستعمار أساساً جنباً إلى جنب "مسيحي ومسلم" (لا للطائفية)، فكان المسيح مقاوماً برفقة حنظلة، فقد حثنا على التآخي والمحبة والنضال المشترك، فالكنيسة كانت عند ناجي العلي قلعة وثكنة للمقاتلين والمسجد كان قبلة الفدائيين، ولا فرق بينهما، فالعدو واحد ويجب علينا أن نعرف كيف نواجهه، فبوحدتنا وبدون طائفية فقط، يمكن معرفة (المتكرش والمطبع) الذي يلهث خلف العدو ويقوم بدوره في قمع المسلم والمسيحي على حد سواء.

جسد ناجي العلي أشكالاً مختلفة وصيغاً لا لبس فيها مؤكداً أنها ستؤدي حتماً لتصفية القضية الفلسطينية، فلم يترك شيئاً، إلا وحدد موقفاً منه (الصهيونية؛ الطائفية، الاحتلال والوصاية الاستعمارية، الاستبداد، الأنظمة المنبطحة، التخاذل والخنوع، النفط ...) بالإضافة إلى أهم محدد وهو  تدمير مكوّنات الهوية العربية بمجملها، وخصوصاً مكوّنها (المسيحي- المسلم) الذي وضعه ناجي بكل عفوية في سياقه الثوري الممتد في تاريخ منطقتنا، مُماهياً بين الفدائي والمسيح الفادي، كون مصيرهما واحد في أرض الرسالات السماوية.

في فن ناجي العلي يعود المسيح من مسالك اغترابه في "الحضارة الغربية" ويرجع إلى بيته في فلسطين، إلى الأرض التي أنبتته، ومنها وإليها تعود دعوته الأُممية للنضال وتحرير الأرض والإنسان، لذا دعا مسيحيي العالم بأن يقفوا إلى جانب سيدهم المسيح الفلسطيني المضطهد فكانت رسالة قوية مفادها (كلنا مناضلون ضد العنصرية، ضد الاحتلال).

إن تصوير ناجي العلي للمسيح بالثائر يعني الشيء الكثير للمتلقي وكأن ناجي بيننا، فهو بالفعل كان يرى ما يجري حوله وفهم جيداً وحذر من الأخطار القادمة التي تُستهدف فيها مكوّنات الهوية العربية وخصوصاً المكوّن المسيحي.

ناجي العلي كان قد وضع بُعدنا العربي المسيحي في سياقه الثوري الممتد في تاريخ منطقتنا، مُماهياً بين الفدائي غير الأبه بما يجري حوله من "طبخات سياسية" وأجندات خارجية تعبث بالمنطقة مرجعيتها معروفة، وبين الفدائي الذي يتشبث بفلسطينيته وبعروبيته سواء كان مسلماً أو مسيحياً، لذا أعاد ناجي العلي المسيح من غربته إلى بيته في فلسطين، إلى الأرض التي أنبتته ومنها وإليها تعود دعوته الأُممية، هذه كانت بمثابة الطلقة التي لفتت إنذار العالم إلى فلسطين السليبة التي سرقت أرضها وهودت، وما الاحتلال؛ إلا طمس للهوية الثقافية للفلسطيني المسلم والمسيحي على السواء، وكذا باقي الأديان. لقد قدمت لوحات ناجي العلي فلسطين للعالم بصورتها الحقيقية كشعب مناضل متآخي مسلميه مع مسيحييه محب للحياة، للضحك، وللألوان، منحاز للقضية الفلسطينية.

ودون كلمات تُذكر، بل بالتهكم والسخرية؛ قدم ناجي العلي صورة للمسيح المقاتل المناضل بالصورة والضحك المُر، كشخصية خامسة ترمز للفداء والظلم والمطاردة، فالسيد المسيح كان ضمن الشخوص شبه الدائمة في لوحات ناجي إلى جانب فاطمة والرجل الطيب والمتكرش والجندي الصهيوني اليهودي.

أخذ الجانب العقائدي في نتاجات ناجي العلي دوره في مهمة خلق الوعي والتنمية السياسية، لأن الوازع الديني في اعتقاده يشكل الملامسة الحقيقية لمشاعر الناس وأحاسيسهم، وهو المحرض الأساس لحركة وعيهم تجاه ما يحيق بهم من مخاطر ومؤامرات، وهو ما يفسر دوماً الإشارات واللافتات الواردة في بعض رسوماته المشيرة باتجاه بيت المقدس وبيت لحم مهد المسيح، والمدن الفلسطينية المختلفة.

لم يتوانَ ناجي في فضح جرائم الاحتلال، دون أن يفرق بين الأديان وبين المواطن الفلسطيني وآخيه من الديانات الأخرى، فكان دائماً مشدوداً إلى الوحدة، فظهرت المسيحية الكفاحية في رسومه بأجمل ما يمكن أن تخطه يد فنان مستلهماً ذلك الجمال من وعيه الذاتي، فوردت مدينة بيت لحم كباقي المدن الفلسطينية إن لم يكن أكثر في لوحات ناجي، كونه ابن قرية الشجرة التي كان يعيش فيها المسيحي إلى جانب المسلم، وهو ما يعطي تفسيراً للوحة التي اتضحت فيها فلسطينية المسيح الثائر والكنيسة المقاومة، فجسد المسيح الفلسطيني وهو ملثم بكوفية فلسطينية، فيما الكنيسة "المرأة الفلسطينية" يعلوها لفظ الجلالة وتزدان وجنتاها باسم النبي محمد "صلعم" والمسيح ابن مريم "عليه السلام"، وهي تؤكد تمسكها بكل فلسطين وعدم الرضى بأي وطن بديل،

وجسد فاطمة وهي معلقة على الصليب من ضفريها بالأسلاك الشائكة.

-_zps10abc48c.jpg

كذلك جسد ناجي العلي المسيح الفلسطيني المصلوب وهو يركل بقدمه المتحررة من مسمار الصليب الجندي الإسرائيلي؛ مذكراً بدور اليهود في صلب المسيح والوشاية به، أراد بذلك التعبير، توضيح عدوانيتهم تجاه أصحاب الديانات الأخرى وعدم التزامهم بأي عهد أو وعد. وفي رسومات أخرى جسد المسيح المضحي المعتز بفلسطينيته انطلاقاً من رفضه للوجود الصهيوني فوق الأرض العربية، كونه تدنيساً للمقدسات الإسلامية والمسيحية وإهانة للمعتقدات الدينية للمسلمين والمسيحيين.

جعل كذلك من حنظلة طفله الشقي؛ محرراً المسيح عن صليبه ليرجم المحتل بحجره، فيما صور أجراس الكنائس المسيحية في الأرض المحتلة رصاصات ثورية، وهي تقبع أسيرة خلف الأسلاك الشائكة، فيما جسدها كبؤرة للثورة المسلحة.

211.jpg

وفي لوحة الحضور والغياب في مدرسة جنين، فقد جسد اسم مريم العذراء أولاً في أسماء الحضور، وتالياً فاطمة وخديجة وزينب وعائشة وآمنة وكتب كنيتهن بالعذراوات، أما الغياب فكانت الرجولة والكرامة العربية والشرف العربي.

naji111.jpg

 وفي لوحة أخرى فقد جسد الجندي الصهيوني الذي صادر بيت الفلسطيني، وهنا إشارة واضحة للتهويد والمصادرة وانتشار المستوطنين في بيوت الفلسطينيين؛ سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين،  يفتح نافذته التي تتكون من ضلفتين على الجهة اليسرى الهلال وفي الجهة الثانية الصليب.

naji_a57.jpg