Menu

أزمة النظام السياسي في إسرائيل.. جانب آخر..!!

أكرم عطا الله

نشر في العدد 20 من مجلة الهدف الرقمية

منذ ستة أشهر يتظاهر الإسرائيليون كل مساء سبت ضد بنيامين نتنياهو مطالبينه بالرحيل، ويبدو أن تلك التظاهرات أصبحت تقليداً ثابتاً لن تتوقف؛ إلا بحل حكومة نتنياهو غانتس الأخيرة، والتي بدأت نذر حلها أو رحيل نتنياهو الذي يكون في نهاية نوفمبر، قد حكم إسرائيل حوالي عقد ونصف على مرحلتين، وبعد أن حطم الرقم القياسي، منذ شهر تموز من العام الماضي، حيث تمتد المرحلة الثانية متواصلة منذ حوالي اثنا عشر عاماً متواصلة، وهذا لم يحدث في إسرائيل سابقاً، وفقط يحدث في النظم الديكتاتورية، وليس في دول المؤسسات.

يتظاهر الإسرائيليون للاحتجاج على إدارته لأزمة كورونا والبعض الآخر يتظاهر؛ بسبب ملفات الفساد والقضايا التي تحيط بنتنياهو من رشوة وخيانة الأمانة، وهي قضايا ليست وليدة الأشهر الأخيرة. فقد فاز نتنياهو في آخر انتخابات فيما كانت ملفاته الجنائية حاضرة، وهذا يعكس تغيّراً هائلاً في المزاج الشعبي ومعايير الناخب، فقد درجت العادة في تلك الدولة أن يسقط أي سياسي لمجرد شبهة أو فتح ملف تحقيق كانت تنهار أسهمه، وينتهي مستقبله السياسي، أما الآن ينتخب الجمهور الإسرائيلي زعيماً بات؛ معروفاً أنه الأكثر فساداً في تاريخ الدولة.

هذا وأحد من أبرز تغيّرات معايير الحكم والسياسة في إسرائيل، فقد حاول نتنياهو الذهاب للكنيست الإسرائيلي لتشريع فساده، وإن فشل، لكن ما حدث خلال السنوات الماضية من استهداف للمدعي العام للدولة والقضاء والتشكيك به هبط بمؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية عن مستويات أرادتها منذ التأسيس أو تفاخرت بها، باعتبارها تقيم نظاماً سياسياً من أكثر النظم تطوراً وحداثة وديمقراطية في العالم، لكن في السنوات الأخيرة؛ تغير ذلك لكل من تابع ما يحدث في إسرائيل.

تلك أزمة أخذت تظهر في السنوات الأخيرة، وبدأت تعبيراتها في حكم نتنياهو الذي لم يعد مقبولاً للنخبة السياسية والثقافية والاشكنازية التي اعتادت على تداول السلطة وزعماء بمعايير شفافية معينة، فقد حكم نتنياهو إسرائيل وحده، ما يعادل 20% من تاريخها، وهذا تطور هام لم يحدث سابقاً، ولم يحلم به بن غوريون مؤسس الدولة، وهذا يترافق مع تغيّرات في المجتمع الإسرائيلي نفسه، وما النظام السياسي هناك؛ إلا انعكاس لهذا المجتمع، فما الذي يحدث؟ وكيف يتم هذا التغيّر بهدوء؟

الشكل العام لإسرائيل في العقد ونصف الأخيرين هو عملية تداول الانتخابات بشكل ديمقراطي، ولكن المضمون الذي يحمل التغيرات سابقة الذكر هو أن إسرائيل أخذت تقترب في نظامها السياسي أكثر نحو الدول العربية أو نحو ديكتاتوريات عالمية، حيث الرجل الواحد والزعيم الأوحد، وكذلك الحزب الحاكم، حيث يقف الليكود على رأس الحكم منذ حوالي عقدين، باستثناء فترة قصيرة؛ فاز بها حزب كاديما الذي قاده شارون وريث حزب الليكود أيضاً.

حزب حاكم واحد وزعيم واحد، حيث انتهت مرحلة أحزاب تتنافس أو حزبان قويان في تاريخ إسرائيل السياسي؛ "العمل والليكود"، وتداولا السلطة منذ نصف قرن، حيث تلاشى حزب العمل؛ "الاستطلاعات الأخيرة لا تعطيه نسبة الحسم"، أما باقي الأحزاب الإسرائيلية، ليست أكثر من شريك صوري للحزب الحاكم؛ "تجربة العالم الثالث"، وغالباً ما تكون القوية منها هي أحزاب موسمية تتقدم وتتراجع، وليست أحزاب عريقة على نمط حزب العمل التاريخي. هذا مرده تغييرات في بيئة وثقافة المجتمع الإسرائيلي؛ الآخذ منذ عقود بالانزياح نحو اليمين القومي والديني، وكلا اليمينين يستمد ثقافته من مراجعها الدينية التوراتية، هذا الانزياح، كان يترافق مع انحسار الكتلة الاشكنازية التي مثلها حزب العمل تاريخياً، وتزايد كتلة القوميين والمتدينين، وأبرز تعبير على هذا الانزياح، هو موت الكيبوتس وتوالد المستوطنات، وهذا له مدلولاته الكثيرة وتأثيراته على انزياح الثقافة، ومنها ثقافة النظام السياسي، وكل من القومي والمتدين.. لا يرى مشكلة في انتخاب زعيم فاسد؛ إن كان ينفذ أجندته الدينية، باعتبارها أسمى القيم، ولا يعير اهتماماً للمفاهيم الحداثية؛ كالمؤسسة والدولة والشفافية، تلك تبدو تعبيرات دنيوية لا تخدم المشروع الديني، والذي يتمثل بإقامة دولة اليهود "والعودة للتاج"، وإعادة الاستيلاء على الضفة الغربية، باعتبارها جغرافياً أحداث التوراة وأماكنها، مثل: قبر يوسف وقبة راحيل والحرم الابراهيمي "مغارة الماكفيلا" والهيكل المتخيل؛ فإن استعادة هذا الإرث المتخيل أهم كثيراً بنظر المتدينين من زعيم سرق بعض المال أو تمت رشوته.

في حزب الليكود نفسه كما زعماء العالم الثالث قاد نتنياهو حملة تطهير منذ أن عاد لرئاسة الحزب؛ إذ قضى على المستقبل السياسي لجميع خصومه في الحزب، منهم منافسه جلعاد أردان الذي واجهه سابقاً، حيث أرسله خارج الدولة ليمثل إسرائيل في الأمم المتحدة، ثم لاحقاً قبيل الانتخابات الأخيرة؛ قضى على منافسه جدعون ساعر، حيث كان الوريث المحتمل، ومن ينظر لحزب الليكود لا يمكن أن يرى قيادات منافسة كما السابق، وكذلك لا أحزاب منافسة؛ هكذا تبدو إسرائيل وصورة نظامها السياسي، وتلك أزمتها التي باتت تدفع المتظاهرين إلى الشوارع دون التعبير صراحة عن هذا الانزلاق الذي يهدد طابع وهوية الدولة ويضرب نظامها السياسي.

هل يمكن أن تنتهي تلك الأزمة ويتوقف هذا الانزياح نحو النظم القديمة؟ بالقطع لا، بل إن المستقبل يزداد حدة؛ بسبب استمرار فعل الديمغرافيا، حيث عائلات القوميين والمتدينين والمستوطنين هي الأكثر انجاباً وهي الكتلة الأكثر قلقاً في المجتمع الإسرائيلي، ويزداد ثقلها أكثر، وتلك التي بات يمثل النظام السياسي الأغلبية فيها، وبفعل ذلك سيتعمق هذا الانزياح بشكله الاجتماعي والثقافي والسياسي لاحقاً نحو فعل أكثر تديناً وقيادة أكثر قرباً للمتدينين؛ و"لاحظ صعود أسهم نفتالي بينيت"، وربما مع سنوات أو عقود؛ تذهب أكثر باتجاه نموذج عوفاديا يوسف؛ عبادة الفرد والتعاويذ الدينية، ومع انحسار كتلة الاشكناز والعلمانيين هناك.. لا يبدو أن أحزاباً معارضة قادرة على تغيير شكل النظام السياسي الذي رسمه بن غوريون...!