من المعروف أنّ وزارة الصحّة الفلسطينيّة هي الجهة المسؤولة عن قيادة وتنظيم عمل القطاع الصحي في الضفة المحتلّة وقطاع غزّة، فهي الجهة المسؤولة عن وضع السياسات والتشريعات والخطط وتفعيل الشراكات بين مختلف الشركاء في هذا القطاع والقطاعات الأخرى، وإدارة واستثمار الموارد المتاحة بالشكل الأفضل، ولدى الحديث عن التأمين الصحي لما يمثله من أهميةٍ قصوى لإعانة الفئات المهمّشة في المجتمع، يتأتى الحديث عن مدى نجاعة التأمين الصحي المعمول به، وهل فعلاً يُلبي رغبات المعوزين صحيًا من كافة الفئات أم لا، وهل يتمتّع كل هؤلاء بحق الحصول والوصول للخدمة الصحيّة السليمة.
عند الحديث عن تغطيةٍ صحيّةٍ شاملة وفق رؤية وأهداف خطط التنميّة الفلسطينيّة، يتطلّب الأمر إصلاحات بنيويّة في النظام الصحي الفلسطيني، ولا يجب إغفال تشرذم وتعدّد أنظمة التأمين الموجودة، وارتفاع إجمالي إنفاق الأسر على الصحة في ظل غياب إدارة عامّة تعمل وفق إطار قانوني على تنظيم تقديم خدمة الرعاية الصحيّة وتشمل جميع الفئات، وخاصّة المهمّشة منها.
الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" أطلقت يوم الخميس 28 يناير/ كانون الثاني، خلال مؤتمرٍ وطني نتائج وتوصيات تحقيقٍ هامٍ أجرته بشأن التأمين الصحي، وحمل عنوان "نحو تأمينٍ صحيٍ شاملٍ وعادل"، حيث أعدته بالتعاون مع شركائها "لجان العمل الصحي، ومرصد السياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ومركز بيسان للبحوث والإنماء).
تحقيق الهيئة الذي اعتمد على المرجعيات الدوليّة المتعلقة بحقوق الانسان فيما يتعلّق بالصحة والتأمين الصحي، بحث في الإشكاليات المتعلقة في واقع التأمين الصحي بكافة أنواعه (الحكومي، الخاص، والتعاوني) التي تحد من تمتع المواطنين بالحق في الصحة، معالجًا في ذلك الإشكاليات القائمة على مستوى التشريعات "الرئيسيّة والثانوية"، وعلى المستوى السياسات المتخذة لضمان إنفاذ التشريعات، بحسب الهيئة المستقلة.
ولعلّ أهميّة طرح هذه المسائل الصحيّة الهامة، وتسليط الضوء عليها سواء من قِبل المؤسّسات الحقوقيّة أو الإعلاميّة هو بهدف الوصول إلى منظومة التأمين الصحي الشامل، المنسجم مع المعايير الدوليّة لحقوق الانسان، وبما يلبي معايير العدالة في الانتفاع من المنظومة الصحيّة والعدالة في تحمّل تكاليف الرعاية الصحيّة.
حماية الفئات الهشّة أولاً
وخلال فعاليات مؤتمر إطلاق نتائج التحقيق بالتزامن ما بين رام الله وغزّة بالربط عبر تقنية الفيديو كونفرنس، أكَّد المدير التنفيذي لاتحاد لجان العمل الصحي رأفت المجدلاوي لـ"بوابة الهدف الإخباريّة" التي حضرت المؤتمر، أنّ "التأمين الصحي يعتبر ضرورة متلازمة بشكلٍ أساسي لتقديم الخدمة الصحيّة لأنّه وسيلة لحماية الفئات الهشّة والأكثر هشاشة والفقيرة في المجتمع، ولنضمن تمتّعهم بحق الحصول والوصول للخدمات الصحيّة فيجب أنّ يكون هناك نظامًا لتأمينٍ صحّي فعّال يغطي هذه الفئات".
ولفت المجدلاوي إلى "وجود ثلاثة أنواع للتأمين الصحي في فلسطين: التأمين الحكومي وظهر منتصف السبعينات، والخدمات الصحيّة الأقرب للتأمين والتي تقدّمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، والنوع الثالث هو التأمين الصحي الخاص الذي تشترك فيه المؤسّسات والقطاعات الربحيّة".
وشدّد المجدلاوي على أنّ "ما يعني اتحاد لجان العمل الصحي هو وجود التغطية الشاملة للاحتياجات الصحيّة الناشئة لدى الفئات المهمّشة والفقيرة بشكلٍ أساسي"، مُشيرًا إلى أهمية مثل هذه المؤتمرات التي تسلّط الضوء على التأمين الصحي وأهميّته، بالقول: "الآن في ظل هذه الأجواء وخاصة في قطاع غزّة نحن بحاجة قصوى لمثل هذا التأمين كون الواقع الصحي الذي نعيشه يُعاني من أزماتٍ معقّدة ومتراكمة، ومنذ الانقسام الفلسطيني يُعاني القطاع الصحي في غزّة من تحدياتٍ كثيرة ونقصٍ في الكوادر البشريّة والامكانيات، وأثّر الانقسام بشكلٍ عام على الخدمات المقدّمة للمواطنين، ولكن الفئات الأكثر تضررًا كانت الفئات الهشّة والفقيرة، فبالتالي وجود تأمين صحي والتركيز عليه سيمثّل أحد الضمانات اللازمة والأساسيّة لحماية هذه الفئات واستدامة الخدمات الصحيّة المقدّمة لها".
وجرى خلال المؤتمر عقد جلسات نقاش تناولت نتائج توجّهات الفئات الاجتماعيّة المختلفة بخصوص التأمين الصحي (النساء، المسنين، ذوي الإعاقة، الشباب، العمال)، والانقسام السياسي وأثره على تقديم الخدمة الصحية.
المشرِّع الفلسطيني لم يعتبر الصحة "حقًا"
واستخلص التحقيق أنّ المشرّع الفلسطيني لم يعتبر الصحة "حقًا"، لذلك لم ينص في القانون الأساسي الفلسطيني عليها ضمن الحقوق، ومن خلال فحص قانون الصحّة العامة، ونظام التأمين الصحي، يُلاحظ أنّه استند على فلسفة أنّ الصحّة خدمة تقدّمها الحكومة بناءًا على مواردها، وإمكانياتها الماليّة، كما استخلص أنّ التأمين الصحي يعتبر البوابة الرئيسيّة للوصول للخدمة الصحيّة، وأحد السياسات الحكوميّة التي تتيح للجمهور الحصول على الحق في الصحة، والانتفاع بسلّة الخدمات الصحيّة اللازمة لضمان التمتّع بالحق في الصحة، وقد ألزم قانون الصحّة العامة وزارة الصحة بالتنسيق مع الجهات المختصة للعمل على توفير التأمين الصحي ضمن الإمكانات المتوافرة.
وشدّد التحقيق على أنّ العديد من القرارات الخاصّة بالتأمين الصحي التي أصدرتها الحكومة الفلسطينيّة خلال السنوات السابقة تعكس تعامل الحكومة مع الخدمة الصحيّة "كردّة فعل"، أو كـ"تجاوب آني" مع الأحداث السياسيّة، أو الاقتصاديّة، دون دراسة اقتصاديّة واجتماعيّة لهذه القرارات، مثل قرار مجلس الوزراء رقم (9) لسنة 2017 الخاص بتعديل قرار التأمينات للعاطلين عن العمل، والذي تم بموجبه إلغاء جميع التأمينات الصحيّة للعاطلين عن العمل ابتداءً من 1/3/2017، والتي كانت تمنح لهم في إطار ما يُعرف بتأمين "انتفاضة الأقصى"، وقرار اعفاء سكّان قطاع غزّة من دفع الضرائب والرسوم، بما فيها بدل الاشتراك في التأمين الصحي، ومن ثم إلغاء هذا القرار في العام 2017.
أنظمة التأمين الحالية مُشتِّتة
ورأى التحقيق أنّ تعدّد أنظمة التأمين الصحي الحاليّة لم يؤدِ إلى اتساع الفئات الاجتماعيّة المستفيدة من أنظمة التأمين الصحي، وضمان حق اختيار نظام التأمين الصحي بالنسبة للجمهور، بل أدى إلى تشتّت هذه الأنظمة، وتضارب الجهات المقدّمة للخدمات الصحيّة، وعدم العدالة في الدفع، وعدم الحصول على ذات المنافع، مُؤكدًا أنّ عدد الفلسطينيين المؤمّنين تأمينًا صحيًا حكوميًا خالصًا، وفق معلومات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2017 حوالي (31.5%) من عدد السكّان، ويبلغ عدد المؤمّنين بكافة أنواع التأمين الأخرى (924.730) نسمة، أي أنّ (21%) من السكّان لا يحملون أي نوع من أنواع التأمين الصحي، وهذه نسبة ليست بسيطة.
وأكَّد التحقيق أنّه من ضمن التحديّات، سياسات الاحتلال الصهيوني التي تتسبّب في هشاشة النظام الصحي الفلسطيني وتداعياتها المستمرة، ويتسبّب الاحتلال عبر ممارساته الممنهجة في حرمان الفلسطينيين من الحصول على خدمة الرعاية الصحيّة، لافتًا إلى أنّ الانقسام الفلسطيني أيضًا من أبرز التحديّات، حيث يتجلّى ذلك من خلال ازدواجية الإدارة بين المؤسسات الحكوميّة في قطاع غزّة ونظيراتها في الضفة المحتلة، مما أثّر على مستوى الحقوق والخدمات التي يتلقاها المواطن، ومن بينها خدمات الصحة، وخدمات التأمين الصحي، وعدم نفاذ القرارات المتعلقة بالتأمين الصحي الصادرة من قِبل وزارة الصحة في الضفة وغزّة.
إيرادات التأمين الصحي
وحول الموارد الماليّة، بيّن التحقيق أنّ إيرادات التأمين الصحي شكّلت ما نسبته (35%) من الإيرادات العامّة لوزارة الصحة للعام 2019، لكنّ الفجوة بين قيمة الإيرادات المتأتيّة لوزارة الصحة من رسوم ومساهمات وبين متطلبات الإنفاق الصحي تؤثّر على قدرات وزارة الصحة، وعلى مستوى الخدمات المقدّمة للمؤمّنين ونوعيتها، لذلك يتوجّب إعادة النظر في معادلة احتساب إيرادات الصحّة في الموازنة العامّة، بحيث تشمل كافة الإيرادات غير المباشرة التي يدفعها المواطن لغايات صحيّة، كالرسوم والضرائب والجمارك المفروضة على التبغ والوقود ومنتجاتهما المختلفة، وكافة الإيرادات المتأتيّة من أي قوانينٍ أخرى، ويكون هدفها الحفاظ على الصحّة العامّة.
وكشف التحقيق عن ارتفاع إنفاق الأسر المعيشيّة على الصحّة، حيث بلغ إجمالي نفقات الأسر المعيشيّة على الصحة (35.5%) في العام 2018، الأمر الذي يعتبر مؤشرًا على استهلاك الصحة على نسبةٍ عالية من دخل الأفراد، وعدم وجود تغطية صحيّة تتناسب مع مستويات الدخل، وتتسبّب في الوقت ذاته بإرهاق المواطنين وتحويل الرعاية الصحيّة إلى عبء اقتصادي، خاصّة بالنسبة لذوي الدخل المحدود الذين يعتبرون الأكثر تضررًا في هذا المضمار.
التوصيات
ختامًا، خلص التحقيق الوطني الذي أجرته الهيئة المستقلة إلى مجموعة من التوصيات التي كان أبرزها إعادة تنظيم الأطر التشريعية لنُظم التأمين الصحي، بحيث يتم إعداد قانون للتأمين الصحي يستند إلى شموليّة التغطية والخدمات، من خلال آليات تمويل ميسورة التكلفة وعادلة، ويساهم الأفراد والحكومة في تمويلها، وإنشاء إدارة قويّة قادرة على إدارتها.
كما أوصى التحقيق بضرورة إنشاء مؤسّسة (هيئة وطنيّة) لتنظيم وإدارة التأمين الصحي، تضع وتنفذ الاستراتيجيّات والإجراءات الكفيلة بتقديم خدمة الرعاية الصحيّة، وتنظيم آليات تمويلها عبر صندوق وطني يساهم فيه المواطنون والدولة بناءً على دراسات مالية واكتوارية، بحيث لا يضار المواطنون بصحتهم، وأوصى أيضًا بضرورة الاستفادة من نتائج هذا التحقيق الشامل، والدراسات والتقارير السابقة المتخصصة بالرعاية الصحية، وتلك المتعلقة بالأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة للشعب الفلسطيني، لبناء تأمينٍ صحيٍ يتجاوب مع واقع واحتياجات الفلسطينيين المختلفة في ظل استمرار الاحتلال الصهيوني، والانقسام الفلسطيني.
وفي التوصيات أيضًا، جرى التشديد على ضرورة إجراء التفاهمات اللازمة مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" لاستمرار تقديمها لخدمة الرعاية الصحية للاجئين الفلسطينيين، وضمان عدم حدوث ازدواجيّة في تقديم الخدمة، أو التمويل، مع ضرورة القيام بالتفاهمات اللازمة مع مقدّمي خدمات الرعاية الصحيّة في القطاع الخاص في ذات الوقت.
(صور من فعاليات مؤتمر إطلاق نتائج التحقيق بالتزامن ما بين رام الله وغزّة)