شهدت الساحة السياسية في إسرائيل منذ ديسمبر 2018 جمودا سياسيا، حيث جرت ثلاثة جولات انتخابية متتالية فشل فيها "تحالف أزرق أبيض" أو حزب "الليكود" في تشكيل الحكومة، وبعد أخر جولة انتخابات التي جرت في مارس 2020 والتي لم تعطِ أي من الحزبين القدرة علي تشكيل حكومة بمعزل عن الحزب الآخر ، فاجأ غانتس رئيس تحالف ازرق أبيض حلفائه والطبقة السياسية في إسرائيل بالموافقة على توقيع اتفاق مع نتنياهو وتشكيل حكومة وحدة، قرار غانتس المفاجئ أرخى بظلاله على استقرار تحالف ازرق ابيض من جانب وعلى حضور واستقرار معسكر ما يسمى بالوسط واليسار من جانب اخر، المعسكر الذي اصطف خلفه بالتصويت كي يطيح بنتنياهو الفاسد من رئاسة الوزراء، وفي خطوة احتجاجية وكرد على ذهاب غانتس للتحالف مع نتنياهو؛ انسحب الشريك الأكبر حزب يوجد مستقبل بزعامة يائير لبيد من التحالف، وكذلك انسحب بوغي يعلون رئيس كتلة عوتسماه، هذه الانسحابات لم تثنِ غانتس من المضي قدما في توقيع الاتفاق مع نتنياهو لتشكيل الحكومة، حيث برر غانتس دوافعه لهذا القرار بأنه ونتيجة لانسداد الأفق واستمرار حالة الجمود السياسي وتكرار الانتخابات دون تغيير في الخارطة الحزبية؛ فإنه بات من الضروري توفير حالة من الاستقرار السياسي في إسرائيل، وكذلك من أجل إصلاح الأضرار الاقتصادية التي تسببت بها جائحة كورونا كوفيد -19، هذه المبررات والمعطيات التي ساقها غانتس لا تعبر في الحقيقة عن النوايا والدوافع الحقيقية التي وقفت خلف هذا القرار، فلقد اشتري غانتس البضاعة الفاسدة التي سوقها له نتنياهو عندما أغراه بالتبادلية في منصب رئيس الحكومة الذي مثل ربحا وفوزا كبيرا من وجهة نظر غانتس الطامح في هذا المنصب؛ متناسيا النوايا الخبيثة التي مررها عليه نتنياهو والتي تهدف في الأساس الى ضمان افلاته من المثول أمام المحاكم، وكذلك تمزيق تحالف ازرق ابيض واضعافه وانتزاع شهادة براءة ذمة من خصمه الذي انصبت حملته الانتخابية على تشويه صورة نتنياهو الجنائية.
- الاتفاق الحكومي الذي تشكل علي خلفية الجمود السياسي بات الخيار الوحيد أمام طرفي المنافسة للخروج من هذا المأزق بمعني آخر أنه بات اتفاق الضرورة اتفاق آلا مفر؛ اتفاق زواج العقل اتفاق الحسابات الشخصية، والا فان الجمود سيبقي قائما ونتنياهو سيبقى رئيس حكومة تصريف الأعمال حتي تشكيل الحكومة الجديدة وبقاء غانتس يقاتل دون جدوي للإطاحة بنتنياهو.
- حكومة الاضطرار أسقطت كل العناوين الأساسية التي من شأنها أن تكون حجر عثرة في تشكيلها "المواضيع السياسية والأمنية وقضايا الدين والدولة والبرنامج الاقتصادي ومعالجة القضايا الاجتماعية"، حكومة ائتلاف بين حزبين يقف كل منها علي الطرف الآخر من المتراس لا يوجد بينهما قواسم مشتركة؛ فالخلاف بين الحزبين أكثر بكثير من نقاط الاتفاق، اذا هي حكومة فرضها واقع الأزمة من جانب والتقاء في المصالح الشخصية لنتنياهو من جانب، وغانتس من جانب اخر.
- حكومة الاضطرار والهروب من أزمة الجمود السياسي والتقاء المصالح الشخصية حكومة هشة وضعيفة وإمكانية انهيارها أقرب من استمرارها وممكن أن تنفجر عند طرح أي ملف خلافي بين الحزبين، وهذا ما حصل، حيث انهارت الحكومة وسقطت نتيجة لخلاف على اعداد موازنة عامة لمدة عامين كما تم الاتفاق على ذلك في اتفاق الائتلاف.
- انهارت الحكومة وسقطت قبل أقل من عام على تشكيلها، حيث حلت الكنيست نفسها تلقائيا كما يقتضي القانون بعد انتهاء مهلة إقرار ميزانية الدولة لعام 2020، وبذلك سيعود الناخبون إلى صناديق الاقتراع في مارس بعد 12 شهرا فقط من الجولة الأخيرة.
أولا- تداعيات انهيار الحكومة "حكومة الاضطرار" على الخارطة الحزبية:
1- حل الحكومة والذهاب لانتخابات في شهر مارس لم تكن رغبة نتنياهو في هذا التوقيت وهذا الظرف، حيث يتعرض نتنياهو لضغوط كبيرة، من احتجاجات أسبوعية في الشوارع ضد استمراره في الحكم، واستئناف محاكمته في شهر فبراير، ومواجهة جائحة كورونا التي تفشت في كل المدن والتي كان لها تداعيات خطيرة علي الاقتصاد والتعليم وكل نواحي الحياة، وكذلك مشاكل داخلية في حزب الليكود، وفي تعقيبه علي حل الكنيست صرح نتنياهو للصحفيين "لم أكن أريد هذه الانتخابات، الليكود لم يكن يريد هذه الانتخابات، لقد صوتنا مرارا وتكرارا ضد الانتخابات لسوء الحظ، تراجع بيني غانتس عن اتفاقاته معنا.
2 - تقديم موعد الانتخابات شكل بيئة مناسبة لرفع الصوت عاليا في أروقة حزب الليكود الذي حوله نتنياهو الي اقطاعية خاصة له ولعائلته والمقربين، نتنياهو بتجربته وما لديه من كاريزما وقدرات شخصية في العمل السياسي استطاع أن يتحكم ويمسك بتلابيب الحزب، أحكم سيطرته علي كل مفاصل الحزب، شكل لوبي قوي في الفروع واللجنة المركزية يصعد من يشاء ويسقط من يشاء، هذا النموذج الناجح الذي صنعه نتنياهو في الليكود حاول ونجح الي حد بعيد في تعميمه على الحكومة ومؤسسات الدولة، فلقد تمكن من صناعة ثقافة سياسية في اسرائيل بأن الدولة والمؤسسات هي نتنياهو وجعل من حضوره وزعامته ورئاسة الحكومة جزءا من الثقافة السياسية الإسرائيلية وجزءا من التكوين الاجتماعي والثقافي.
3 - الحراك وعدم الرضا الذي بدأ يتفاعل في أروقة الليكود احتجاجا على نتنياهو، وعلى أسلوب إدارته للحزب والدولة ما وهي الا محاولات من بعض الطامحين في إزاحته والحالمين بزعامة الحزب ورئاسة الحكومة؛ الحراك والاحتجاجات جاءت من شخصيات وازنه في الحزب، من قادة مؤسسين لهم باع طويل في صناعة النجاح؛ شخصيات لم تعد قادرة على احتمال استمرار اختطاف نتنياهو للحزب، غير قادرين على الصمت طويلا على استغلال الحزب كغطاء يتلحف به نتنياهو ليحيمه من دفع ثمن مخالفاته الجنائية؛ قادة وشخصيات قتل نتنياهو كل أحلامهم وطموحاتهم وسرق حقوقهم وهدد مستقبلهم في الاستمرار في الحياة السياسية.
4 - انشقاق احد قادة الحزب جدعون ساعر؛ الطامح في إزاحة نتنياهو وإسقاطه من رئاسة الحكومة في الانتخابات القادمة؛ انشقاق ساعر ومعه مجموعه من أعضاء الكنيست من ذوي التأثير سيمثل تحديا سياسيا كبيرا لنتنياهو؛ فمن شأنه أن يجتذب الأصوات من كتلة نتنياهو وسيلحق ضررا بفرصه في تشكيل حكومة قادمة؛ ساعر وحزبه الجديد "الامل" وفق ما جاءت عليه استطلاعات الرأي، تؤكد أن هذا الحزب سيحصل على عدد من المقاعد تتراوح من 16 الى 20 مقعد.
5 - دخول ساعر بحزب جديد العملية الانتخابية سيؤثر علي توزيع المقاعد في كتلة اليمين، فلقد استطاع أن يقتطع اصوات ومقاعد من الليكود كما أسلفنا ومن حزب يمينا الذي يقوده نفتالي بينت؛ يمينا كان يحصل في الاستطلاعات قبل دخول حزب ساعر المنافسة في الاستطلاعات علي اكثر من 18 مقعد.
6 - ومن تداعيات حل الكنيست والذهاب لانتخابات جديدة تفكك وانهيار حزب الجنرالات "ازرق ابيض"؛ حزب رئيسي الأركان السابقين غانتس وشريكه جابي اشكنازي؛ انهيار مدوي تمثل بانسحاب بعض أعضاء الكنيست وبعض الوزراء من الحزب، وانفضاض مصوتي الوسط واليسار الذين حملوه المسؤولية في خيانتهم وبيع أصواتهم لنتنياهو مقابل وعودات كاذبة ووهمية.
7 - فشل وانهيار حزب ازرق ابيض يعود إلى ضحالة تجربة الجنرالات في العمل السياسي وانعدام خبرتهم في دسائس والاعيب السياسيين.
8 - فشل حزب الجنرالات ازرق ابيض؛ ترك كتلة الوسط واليسار تتجاذبها مشاعر الإحباط والتفكك والانهيار، فلم تعد هذه الكتلة السياسية ومصوتيها قادرة علي منافسة كتلة اليمين في تشكيل الحكومة القادمة.
9 - انهيار ازرق ابيض؛ ترك فراغ في قيادة كتلة الوسط واليسار، حيث بلغت الأحزاب التي تريد أن تمثل هذا القطاع الانتخابي 11 حزب وكتلة، أبرزها حزب جديد أعلن عن انطلاقه "رون خولدائي" رئيس بلدية تل أبيب يافا "حزب الإسرائيليين"؛ انضم لهذا الحزب الجديد البعض من أعضاء الكنيست الذين تركوا ازرق ابيض وبعض الشخصيات السياسية التي كانت محسوبة على حزب العمل المنهار والمختفي عن ساحة المنافسة في الانتخابات القادمة، حزب الإسرائيليين تشكل وفق اعتقاد خولدائي ليملء الفراغ الذي خلفه انهيار ازرق ابيض واختفاء حزب العمل للحفاظ علي الحيز السياسي لكتلة الوسط واليسار، وكذلك تشكيل حزب جديد يترأسه الوزير السابق ورئيس الموساد السابق داني ياتوم لخوض الانتخابات، إضافة إلي حزب ميرتس وحزب عوفر شيلح المنشق عن حزب يوجد مستقبل، أحزاب قد يتجاوز بعضها نسبة الحسم وآخري ستفشل وستختفي.
ثانيا- إخفاق الجنرالات.. لماذا؟
- 14 من أصل 21 رئيس أركان للجيش الإسرائيلي منذ إقامة اسرائيل دخلوا معترك الحياة السياسية؛ نجح 14 منهم في الوصول إل أن يكون عضو في الكنيست الاسرائيلي وعشرة شغلوا مناصب وزارية واثنان منهم فقط استطاعوا أن يصلوا الي منصب رئيس وزراء "اسحق رابين واليهود براك".
- أثيرت في الآونة الأخيرة نقاشات وتساؤلات حول إخفاق الجنرالات من الوصول إلي منصب رئيس وزراء علي الرغم من خوض ال 14 الذين دخلوا معترك السياسة كمنافسين علي رئاسة الحكومة؛ النقاش حول هذا الموضوع جاء علي خلفية الإخفاق والفشل الذي جلل تجربة الجنرالات بيني غانتس وجابي أشكنازي وموشيه بوجي يعالون.
- من رصد وقراءة التجارب ممكن أن نقول أن المسؤولية واللوم اولا تقع على عاتق السياسة ودهاليزها وأحابيلها وخدعها وطبيعتها أكثر مما تقع على الجنرالات؛ فالسياسة تتطلب ثقافة عالية المستوى من التجربة والقدرة علي المناورة والدهاء وعقد الصفقات والاصطفافات وبناء التحالفات وهي ثقافة مخالفة لتلك السائدة في المؤسسة العسكرية.
- العمل في الجيش الإسرائيلي ونتيجة للنظرة الإيجابية من المجتمع المدني في اسرائيل تجاه هذه المؤسسة؛ تؤهل الجنرالات بأن يكونوا محل احترام وتقدير بما يضمن انتخابهم، لكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الجنرال لديه قدرة عند انخراطه في العمل السياسي علي إدارة الدولة ومؤسساتها.
- عدم التوازن بين من يستطيع بوظيفته وعمله في الجيش أن يجعل الناس تنتخبه وبين الشخص الذي لا يمتلك القدرة والكفاءة على إدارة وقيادة المؤسسات المدنية.
- الانتقال السريع من الجيش الى الحياة المدينة والانخراط في المعترك السياسي الذي يحتاج الى التدريب لرفع الكفاءة وصقل الخبرات وتنوعها، فمن الصعب أن يتمكن الجنرالات من النضوج الا إذا دخل هذا المعترك السياسي بشكل تدريجي من عضو كنيسيت الى رئيس لجنة برلمانية الى وزير ثم ينافس على رئاسة الحكومة.
- طبيعة الجيش وقيادته، حيث توجد ثلاث مركبات رئيسية للجيش:
1- الهرمية الواضحة.
2- تحديد صلاحيات المستويات المختلفة.
3- وجود آليات ونظم وقوانين بنيوية تضمن وصول هذا الشخص لرتبة جنرال أو رئيس أركان وفقا لقواعد العمل والمهمات.
- والجانب الآخر والمهم في إخفاق الجنرالات، حيث أشرنا سابقا ان المسؤولية تقع اولا علي السياسة؛ نقول هنا انه ثانيا تقع المسؤولية على الجيش؛ فالشخص الناجح في الجيش ليس بالضرورة أن يكون نجاحه نتيجة لجودته وتميزه الخاص وانما نتيجة لوجود مؤسسة الجيش بهيكليتها وصلاحيات وآليات اختيار الأشخاص ليكونوا جنرالات وقادة عسكريين.
- في المحصلة قد يكون السبب في إخفاق الجنرالات الى:
1- قد يكون سبب فشل الجنرال يكمن في طبيعة السياسة بالدرجة الأولى.
2- أو في طبيعة تجربته ومهاراته السياسية أو في طبيعة شخصيته الادارية.