Menu

الربيع العربي "وحسابات الحقل والبيدر"

عبد الحسين شعبان

نُشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة الهدف الإلكترونية

توطئة

يسود لدى أوساطٍ فكريةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ ومجتمعيةٍ عديدةٍ ومختلفة، شعورٌ بالمرارة والخيبة لدرجة الاكتئاب والقنوط، لما آلت إليه الأمورُ بعد حركات الاحتجاج الشعبية والانتفاضات الواسعة التي ابتدأت في أواخر العام 2010 وأوائل العام 2011 في مدينة سيدي بو زيد في تونس، إثر حرق محمد بو عزيزي نفسه، لتنطلق مواجهاتٌ سريعةٌ تطوّرت لتعمَّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها بما عُرف بانتفاضة الياسمين، وفي شهر يناير ذاته ( كانون الثاني 2011) اندلعت أيضا حركةٌ شعبيةٌ في مصر تتويجاً لتراكمٍ طويلٍ من الاعتراض والمطالب الحقوقية والسياسية، لتعرف "بانتفاضة النيل" وتحوّلت بسرعةٍ فائقةٍ إلى بركان غضبٍ هائلٍ، أجبر الرئيس السابق محمد حسني مبارك على التنحّي، مثلما نجحت الانتفاضة التونسية على تحقيق النصر بفرار الرئيس علي زين العابدين.

وبعد تونس ومصر، شهدت العديدُ من البلدان العربية حركاتِ احتجاجٍ واعتراضٍ وتمرّدٍ ما زالت تداعياتها مستمرةً إلى الآن، سواء في ليبيا أو سوريا أو اليمن، ناهيك عن ما حصل في العراق منذ احتلاله في العام 2003 ولحد الآن، فضلاً عن لبنان التي تستمر أزمة الحكم فيه منذ عقود من الزمان، ليس هذا فحسب، بل أن التململ كان مادةً حاضرةً في الشارع العربي واستحقاقاً راهناً حتى وإن كان مؤجلاً.

بعد عقدٍ من الزمان على ما أٌطلق عليه "الربيعُ العربي"، يتساءل المواطن العادي ما الذي تحقق وما الذي لم يتحقق؟ وهل ثمة توازنٍ بين الآمال التي انعقدت عليه ومآلات الواقع وتعقيداته؟ وهل كانت حسابات الحقل موازيةً لحسابات البيدر ولا نقول مطابقةً لها؟ هذه أسئلة يواجهها الباحث سيما بعد تدهور الأوضاع وانكسار الكثير من الأحلام، وتراجع العديد من القوى التي بدت مستبشرةً بما حصل، خصوصا بعد اصطدامها بقوى " الثورة المضادة " وما أُطلق عليها " الدولة العميقة "، فضلاً عن أن القوى الجديدة التي استلمت مقاليد الأمور لم تكن مهيأةً أصلا لذلك، ناهيك عن قلّة كفاءتها وضعف آدائها، خصوصاً في ظل الصراعات الحادة التي انخرطت فيها بين بعضها البعض لاعتباراتٍ أنانيةٍ ومصالحَ سياسيةٍ غنائمية، وبدلاً من الاعتماد على الكفاءة والوطنية، فقد كان الولاء والزبائنية الأساس في تولّي  المناصب العليا، الأمر الذي أدّى إلى استشراء الفساد المالي والإداري، وتفشّي العنف والإرهاب لأسباب تتعلق بالتعصّب ووليده التطرّف، وهذا الأخير إذا ما انتقل إلى من التفكير إلى التنفيذ يصبح عنفاً وإرهاباً.

في الكثير من الأحيان، ارتدّت الأمور إلى ما هو أسوأ عليه مما كان في السابق، وتراجعت منظومة الحريات على الرغم من بعض مظاهر الديمقراطية مثل إجراء الانتخابات، وحدث نكوصٌ وارتكاسٌ في الأوضاع الاقتصادية والمعاشية والخدمية، بل اندلعت حروبٌ أهليةٌ وفوضى عارمةٌ شجعت القوى الخارجية على التدخّل، كما حصل في ليبيا و اليمن وسوريا،  ودفعت شعوب هذه البلاد أثمانها باهظةً بشرياً ومادياً ومعنوياً، فضلاً عن صعود عوامل الانقسام والتفتت المجتمعي دينياً وطائفياً ومناطقياً، وهذا قاد إلى ضعف الشعور بالهويّة الوطنية والانتماء الوطني الموحّد وقد يقود إلى التشطير ويشجّع الانفصالية والعزلة، وإذا كانت تلك بعض الحقائق التي واجهت " الربيع العربي "، فما هو الدرس التاريخي الذي يمكن الوصول إليه لتحقيق أهداف  التغيير التي تصبح يوماً بعد آخر " فرضاً بعد عين " كما يُقال وليس " فرضاً بعد كفاية " ؟ ثم ما هي خريطة الأهداف الحقيقية للربيع العربي؟ وهل أصبحت خارج دائرة المطالبة؟ أم ثمة فترة انتقالٍ قد تطول لتعلنَ في نهاية المطاف عن تجدّدٍ في وجهتها بالرغم من التضاريس الجديدة التي شهدتها وبعضها لا يخلو من وعورة وقوة غير قليلة، فما هو واجب النخب الفكرية والثقافية والسياسية المؤمنة بعملية التغيير على الرغم من انكسار موجتها الأولى؟ فهل ينبغي ترك بلادنا تتخبط بما هي عليه وتدور في أزماتها أم ثمة واجب عليها بالعمل على تجسير الفجوة من خلال مبادرات ومشاريع قوانين ولوائح ومقترحات وضغوط مختلفة، سواء تمت الاستجابة لها أو لم تتم، ولعل الاحتجاج وحده لا يكفي أحياناً إلا إذا تحوّل إلى قوةٍ ماديةٍ تسهم في رفع الوعي المجتمعي والتأثير على الرأي العام وقواه الحية، حتى وإن تطلّب الأمر تراكماً قد يطول أمده، ولكن لا غنى عنه لإنجاز عملية التغيير.

  لربما كانت ثمة أوهامٍ من تحقيق أهداف " الربيع العربي " دفعة واحدة، إذ لا توجد عصا سحرية يمكنها القيام بذلك، فالهدف من التغيير ليس استبدال رئيسٍ أو حاكمٍ بآخر، بل أنه عمليةٌ طويلةُ الأمد وبعيدة المدى، أي أنها مسارٌ معقدٌ ومتشابكٌ سياسياً واجتماعياً وثقافياً وقانونياً وتربوياً ودينياً، وبالطبع مسار سياسي متدرّج، لأنه  ليس حدثاً عابراً أو رد فعلٍ طارئٍ أو ظرفيٍ أو مؤقت، وحسبي هنا مثال "الثورة الفرنسية"  ومآلاتها حيث جاءت نتائجها بعد ما يزيد عن قرنٍ من الزمان، وعبر معاناةٍ شاملةٍ وأعمالِ عنفٍ وإعداماتٍ ومجازرَ وحروب، بالرغم من أن أهدافها كانت دعوةً للحرية والإخاء والمساواة، وهي مثلٌ ظلّت تلّهم الشعوب والأمم وتجذب الملايين من البشر وما تزال، وبالطبع لم تذهب التضحياتُ سُدىً، وكان مخاضها عسيراً، وبالتراكم والتطور التاريخي تحوّلت المفاهيم إلى قوانين، وهذه أصبحت نافذةً في إطار مؤسساتِ رقابةٍ ومساءلةٍ وقضاء .

لقد تدحرجت " الشرعيات القديمة " وانهارت على نحوٍ مفاجئٍ دون وجودِ برنامجٍ انتقالي  لبدء " شرعيات جديدة "، فالقوى التقليدية اليسارية والقومية والإسلامية على مختلف توجهاتها كانت تأمل أن تكون الانتفاضات التي حدثت على نحوٍ عفويٍ وفقا لتصوراتها أو مسطرتها، في حين أن ذلك مخالفٌ لعملية التغيير ذاتها ولتعقيدات الواقع في ظروف العولمة والتطور الهائل في ميدان العلوم والتكنولوجيا، لا سيما تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية "الديجيتيل" والعالم في خضم الطور الرابع للثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي.

مسارات التغيير رؤيةٌ كونية

بما أن أي ثورةٍ ليست مقننة أو مرسومة وفق ضوابط محددة، أو مصنوعة في معمل ومغلفة بالسيلفون، بل هي نتاج تفاعلٍ اجتماعيٍ واقتصاديٍ وثقافي، في لحظة معينة تتحد فيها العوامل الذاتية مع العوامل الموضوعية لتندلعَ الشرارة التي تشعل اللهب في السهل كله على حد تعبير ماوتسي تونغ، فإن الأمر قابلٌ لمواجهة الكثير من المنعرجات في طريقها، وتعرضها للعديد من الانثلامات والانكسارات والتراجعات، وهو ما أصاب بعض الثوريين بالتشاؤم والقنوط لدرجة أقرب إلى اليأس، وهو ما حاولت رصده باستنتاجاتٍ إزاء مستقبل التغيير في كتابي "الشعب يريد ... تأملات فكرية في الربيع العربي " (دار أطلس  بيروت 2012) يمكنني القول: إن الثورة ليست طريقاً مستقيماً بلا نتوءاتٍ أو منحدراتٍ أو منعطفات، وعلى العكس من ذلك فهي مليئةٌ بكل ذلك. إنها دربٌ وعرة، وفيها الكثير من المفاجآت والمفارقات المبهجة والمحزنة، السعيدة والمؤلمة وأعقد ما فيها أن سرعة التغييرات تشمل حتى من كان وراء تفجيرها وقيادتها، لذلك قيل إن " الثورة تأكل أبناءها " وهو قول مستمد من التجربة التاريخية الكونية، وعلى الرغم من أن التشاؤم حالةٌ تكاد تكون سائدةً في منطقتنا منذ أربعة عقودٍ من الزمان، خصوصاً في ظل صعود الموجة الدينية وتأثيراتها التقسيمية إضافة إلى ذيولها الطائفية والمذهبية، وارتفاع منسوب التطرّف والتعصّب والإقصاء والتهميش للآخر والعنف والعدوان بما فيه استمرار هدر حقوق الشعب العربي الفلسطيني عبر ممارسات "إسرائيل" العنصرية، إضافةً إلى احتلال العراق وتداعياته في العام 2003، لكن منهج التحليل والاستقراء والمراجعة التاريخية السسيولوجية، الحقوقية لأحداثٍ كبرى حرّكت دولاً وشعوباً بكاملها، يحتاج إلى مقاربةٍ من نوع مختلف، خصوصاص إذا ما درسنا ذلك بالارتباط مع حركة التغيير العالمية، التي شهدتها أوربا الغربية والشرقية وعددٌ من البلدان في العالم، وكجزءٍ من قانونٍ عام ومسارٍ كوني .

فبعد أن كان التغيير استعصاءً في اليونان والبرتغال وإسبانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فإذا بنا نشهد في أواسط السبعينيات تغييراتٍ جوهريةً في هذه البلدان نحو الديمقراطية والتعددية والتنوع، وسن دستورٍ يقرّ بمبادئ المساواة والمواطنة الكاملة والشراكة، وأقيمت على أساسه انتخاباتٌ دوريةٌ لاختيار الشعب لممثليه وهكذا تمّ وضع حدٍّ للدكتاتوريات وإنهاء فترة حكمها، والانتقال إلى حكم سيادة القانون واستقلال القضاء، ثم حدث التغيير في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات، حين تمّت الإطاحة بالأنظمة الشمولية، وكان تحطيم جدار برلين ( 9 نوفمبر/تشرين الثاني1989) إيذاناً بمرحلةٍ جديدةٍ للصراع العالمي، اتسمت بهيمنة الولايات المتحدة كلاعبٍ أساسٍ في العلاقات الدولية، وتوزّعت الأنظمة الاشتراكية السابقة بخصوص ما سمّي بالعدالة الانتقالية بين فقه المواصلة وتحقيق مصالحات ضرورية للانتقال الديمقراطي، وبين فقه القطيعة مع الماضي وتجريمه، حيث اختارت بولونيا وهنغاريا فقه المواصلة، في حين كانت ألمانيا الديمقراطية قد سارت شوطاً بعيداً في فقه القطيعة، خصوصاً بانضمامها إلى ألمانيا الاتحادية، أما تجربة تشيكوسلوفاكيا فقد كانت منزلةً بين المنزلتين، حيث ابتدأت بفقه القطيعة وانتهت بفقه المواصلة وافترقت بانفصالٍ مخمليٍ، لتصبح جمهوريتين، هما جمهورية تشيكيا وجمهورية سلوفاكيا، في حين عرفت رومانيا تجربةً دموية، وشهدت يوغسلافيا تقسيماً وحروباً انتهى بها إلى ست دول، وكذلك الاتحاد السوفيتي انقسم إلى 15 كياناً دولياً .

   العالم العربي لم يكن جزيرةً معزولة، وكان من المؤمل أن تصل رياح التغيير إليه في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، لكنها انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط لأسبابٍ تتعلق بعدم الاستعداد الكافي من جانب النخب السياسية والمجتمعية، أي عدم توفّر العامل الذاتي،  إضافة إلى عدم نضج العامل الموضوعي، ولا سيما الدولي حيث كانت القوى الكبرى لا تريد تحريك ساكن في منطقة النفط الحيوية، التي لديها مصالح كبرى فيها، كما أنها لم تكن هي الأخرى مستعدةً لفتح معركةٍ في جبهتين في آنٍ واحد، وكان يكفيها جبهةُ أوروبا الشرقية آنذاك، إضافةً إلى ذلك إن البيئة الإقليمية طاردةٌ للتغيير، وغيرُ صالحة للتحوّل الديمقراطي، وتشّكل "إسرائيل "إحدى الكوابح بوجه عملية التغيير الديمقراطية والتنمية في المنطقة العربية، الأمر لم يتوقف عند العالم العربي، بل يمتدّ إلى العديد من بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية المهيأة للتغيير على الرغم من بعض العوائق والتحديات مثل دور العامل الديني، السلبي  بقراءته الانتقائية السلفية ومشاكل التنوع الثقافي التي يُطلق تجاوزاً "الأقليات" (والمجموعات الثقافية)، وكذلك العادات والتقاليد البالية والتخلّف والأمية وغير ذلك، وتلك سمات بارزة ومشتركة في العالم الثالث، مع أن لكل بلدٍ خصوصيته ومشاكله .

تشاؤمُ الواقع وتفاؤلُ الإرادة

أقدّر وجدانياً حالات الخيبة والخذلان والإحباط والنكوص والتشاؤم، هي جميعها حالات إنسانية لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار، وأريد أن أميّز بينها وبين اليأس، وقد حاولت التوقّف عند أبوابه من خلال تشخيص الواقع، وأجد نفسي في مقاربتي لموضوع التغيير ومستقبله، أقف على أرضيةٍ مختلفةٍ لبعض الأطروحات اليائسة من عملية التغيير، أو الناقمة إزاء مواجهة التفرّد بالسلطة، أو الاستئثار بالحكم أو مواجهة الفساد وسوء الأحوال المعاشية وغياب العدالة، وأنطلق من تأييدي لوجهة نظر أنطونيو غرامشي المفكر الماركسي الإيطالي، الذي يقول عن وصف الحالة: تشاؤم الواقع وتفاؤل الإرادة .

وسأحاول إضاءة ذلك عبر عشرة مقارباتٍ أساسية، ولا استهدف من ذلك تقديم مخططٍ تفصيلي للانتفاضات العربية الناجزة وغير الناجزة، وليس في نيتي تقديم وقائع يوميةٍ للأحداث، فتلك قد تكون مهمةَ المؤرخ التي تتلخص في جمع وقراءة الأحداث وربطها ببعضها، بما قبلها وما بعدها وبما يناظرها في هذا البلد أو ذاك، بما فيها الروايات المتباينة، فالتاريخ مرواغٌ وماكرٌ في كثير من الأحيان حسب هيغل، كما أني لا استهدف تدوين تاريخ اللحظة، أو لحظة التاريخ فتلك مهمة الإعلامي حسب البير كامو باعتباره مؤرخ اللحظة، وتكون مهمة السسيولوجي غير مكتملة، لأنه لا يتنبأ، بل يعطي أحكامه وتقديراته بعد وقوع الحدث وفقاً لمعطياته، فيستخدم أدوات التحليل، ومثل هذا الأمر ما يزال في تفاعلاته الأولى، على الرغم من مرور 10 سنوات، فهذه قصيرة بحكم الزمن، بما فيها من انتهاكاتٍ وتجاوزاتٍ بانتهاء  "شرعيةٍ" كانت سائدةً أو تآكلت، مع بداياتٍ لشرعيةٍ جديدةٍ لم يتم التوافقُ عليها أو ما زالت تتقاذفها تياراتٌ شتى ولم تستقر بعد.

أما مهمة المنشغل بقضايا الفكر، فتتلخص بالوصول إلى الحقائق وتلخيص السمات العامة والخلاصات والدروس الضرورية التي يمكن الوصول إليها، والهدف هو تحديد المعاني والدلالات، ليس لما وقع من أحداث، بل لاستشراف أبعادها ومضامينها المستقبلية، وقد استهدفت من عملية البحث والتقصّي والاستنتاج، استكشاف العملية الثورية الجارية، بالتوقّف عند مقدماتها والبحث في مساراتها والسعي للتعرّف على حقيقتها وخصائصها، ومن جهةٍ ثانية، دراسة التحّديات والخيارات الصعبة التي أثارتها إزاء المستقبل، لاسيما التباسات بعض جوانبها وتداخلاتها مع بعض العوامل الخارجية، خصوصاً المسلحة، وارتباط ذلك بحصارٍ وعقوباتٍ قد تطول، دون إحداث التغيير المنشود، ولعل "النموذج الليبي" على الرغم من التضحيات والخسائر التي قدمها الشعب، إلا أن عملية الحسم لم تحدث إلا بعد التدخّل الخارجي لحلف الناتو، الأمر الذي عقّد المسألة إلى حدودٍ غير قليلة، ليس لأوضاع الحاضر فحسب، بل فيما يتعلق بالتطّور المستقبلي أيضاً، وما تزال "المأساة السورية" ماثلةً للعيان، ولا سيما تأثيراتها الخطرة على السكّان المدنيين وارتهاناتها للعالم الدولي والإقليمي، حيث يدفع الشعب ثمناً باهضاً منذ ما يزيد على 10 أعوامٍ من الاحتراب والاقتتال، وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا، وتدمير البنية التحتية، وتخريب المرافق الحيوية والمعالم الثقافية والحضارية والآثارية، وبالأخص محاولة تمزيق النسيج الاجتماعي، وإثارة النعرات الدينية والطائفية والمذهبية والمناطقية.

الثورة والديمقراطية

يمكن القول: لا تولد الثورة مع الديمقراطية في يومٍ واحد، والثورة لكي تولد وتترعرع ويشتد عودها وتنضج، تحتاج إلى مسارٍ طويلٍ وتراكمٍ يحتمل التجربة بما فيها الخطأ والصواب، وهي بذلك تحفر في الأساسيات المفضية إلى الديمقراطية وإن كان الطريق إليها وعراً وغير سالكٍ أحيانا، ولابدّ أن يتسّم بالآليات الديمقراطية، حيث يتم حفره وتعبيده ارتباطاً باحترام حقوق الإنسان والسعي لإعلاء قيمه وحرّياته الأساسية الفردية والجماعية، وعكس ذلك ستكون " الثورة" تغييراً فوقيًا سرعان ما يتبخر، لأنه نقرٌ في السطح، وليس حفراً في العمق، على حدّ تعبير المفكر ياسين الحافظ، وبين الثورة والديمقراطية طريقٌ طويلٌ وشائقٌ ومعقد، وحتى وإن تعاشقا فإنهما لا ينامان في سريرٍ واحد، وتصادِف علاقتهما منعرجاٌت وتضاريسُ وتباعداتٌ أحياناً، ويعتمد نجاح الأولى على درجة سيرها بخطٍ موازٍ للنظرية، فذلك يعني أنه في الطريق الصحيح، أما التطابق فيكاد يكون مستحيلاً ويختلف مسار الثورة الديمقراطية قرباً أو بُعداً بدرجة تطور كل بلدٍ اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً وقانونياً، الأمر الذي يمكن أن يصل فيه بلدٌ إلى الديمقراطية، بطريقٍ أقصر، في حين يحتاج بلدٌ آخرٌ للوصول إليها إلى فتراتٍ مضاعفةٍ وبخسائرَ أكبر وتضحياتٍ أعظم .

سأكون معنياً للبحث عن المعنى والدلالة بدرجةٍ أساسية، لأنهما يراكمان المعرفة ويمنحان الفرصة لقراءة التاريخ بوقائعه وأحداثه، بتضاريسه ومنعرجاته، وإذا ما توقف عند التفاصيل فقد كان هدفي هو استنطاقها للوصول للمعنى والدلالة، والإحاطة بجوانب المسألة المعرفية من كل جوانبها، ومع انفتاح العالم، لا سيما في ظل تكنولوجيا  المعلومات والاتصالات والمواصلات الحديثة، فإن إعادة صياغة المتوفر منها تتم بالتراكم المعرفي، ولعل التمرّد التلقائي العفوي على الواقع البائس الذي عايشه الشباب مع وجود عوالم أخرى يمكنه الإبحار فيها أو التحليق إليها عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، جعلت خياله يتشكّل معرفياً، الأمر الذي ساهم في إشعال نار الثورة وانتقالها، وهنا تكمن وظيفة الباحث والمعني بقضايا الفكر والمعرفة، وأقصد بذلك استخلاص المعنى من كل ما حصل خارج حدود الجغرافيا والتاريخ والسياسة، بتجاوز الواقع إلى المستقبل، من خلال خطوطٍ عريضة، فمن السابق لأوانه تقديم أحكامٍ واستنتاجاتٍ متكاملة، وحتى هذه الخطوط العريضة، يمكن إعادة النظر فيها بعد حينٍ إذا لم تؤيدها الوقائع اللاحقة .

فإن المتأمل لما حدث في العالم العربي من تغييراتٍ جذريةٍ عميقةٍ ومن ثوراتٍ شعبيةٍ ووعيٍ جماهيريٍ هائل، يدرك أن ما حصل لم يكن أحداثاً طارئةً أو تمرداتٍ عابرةً وانتفاضاتٍ تقليدية، بل أنه مخاضٌ قد يكون طويلاً وعسيراً لولادةٍ جديدةٍ لعالمٍ عربيٍ لم يعد بالإمكان عليه البقاء خارج الزمان والتاريخ، ويعيش في جزرٍ معزولةٍ بعيداً عن التأثير، ولعل تلك واحدةٌ من الاستحقاقات المؤجلة منذ نحو ربع قرن وترافقاً مع موجة أوروبا الشرقية للتغيير، ومهما حدث أو سيحدث فالأمر يتعلق بالتطور المستقبلي على الوجهة التي سيتخذها على اصطفافات القوى الاجتماعية والسياسية، ودرجة الاستقطاب والصراع الذي سيحصل بين قوى إسلامية متنفذة سيكون لها القدح المُعَلّى، وبين قوى شبه علمانية يسارية وعروبية، شبه ليبرالية، شبه ديمقراطية، تريد تلمّس طريقها في ظل تجاذباتٍ حادة .

إذا كان الربيع العربي قد أطاح بنظمٍ استبدادية سلطوية، وهيّأ المستلزمات الأولية لإحداث تغييراتٍ في العالم إن عاجلاً أم آجلاً، فإنه في الوقت نفسه قد أسقط بعض المقولات والأفكار التي سادت في العقديين الأخيرين من قيامه، أو برهن على بطلانها وهزالها حتى وإن البعض يتشبث بها، ولعبت تلك الأفكار والمزاعم دوراً كبيراً في إطالة عمر بعض الأنظمة، بل وساهمت في التأثير سلبياً على وعي بعض النخب الفكرية والسياسية وحتى تخديرها، على رغم من معاناة السكان وتوقهم إلى التغيير والتحوّل الديمقراطيين، ناهيكم عن حالات اليأس أو القنوط التي سببتها سواء بوضع كوابح داخلية أو خارجية، لاسيما في جانبها النظري أو العملي .

سأحاول رصد هذه المقاربات التي كادت أن تصبح مسلماتٍ لدى بعض القوى والفاعليات السياسية التي لم تكن بعيدة عن ترويج الأنظمة الحاكمة لها، فضلاً عن سدنتها من الآيدلوجيين والمثقفين، بمن فيهم الذين يتحدثون عن التغيير، بل ويدعون إليه ولكن على نحوٍ "تجريديٍ" أحياناً أو فيما يخص الغير، دون أن يصل إلى أولي الأمر أو الحكام الذين يبررون وجودهم واستمرارهم بحجة غياب البديل، أو عدم نضج عملية التغيير أو يراهنون على بعض الإصلاحات، ومثل هذه الأطروحات لم تكن حصراً على القوى الداخلية، بل أن بعضها تبنّته القوى الخارجية، ولاسيما القوى الخارجية المتنفّذة ، والتي شكّلت عائقاً فكرياً وعملياً إزاء التغيير الديمقراطي المنشود، حتى بدت الديمقراطية أو التحوّل الديمقراطي وكأنها استعصاءٌ أو "وعدٌ" غير قابلٍ للتحقق في العالم العربي.

مقارباتٌ فكريةٌ للتأمل والفحص

    المقاربة الأولى: إن جوهر الصراع هو بين الإسلاميين وبين العلمانيين وعلى الأخيرين حتى وإن اختلفوا مع الأنظمة الحاكمة، ولكنها بكل الأحوال هي الأقرب إليهم من الإسلاميين، الذين يشكلون خطراً على الديمقراطية المنشودة فهل هذا هو جوهر الصراع؟

يمكنني القول إن عملية التغيير بما حملته من ديناميكيةٍ أدّت إلى انتعاش الأفكار الديمقراطية، لا سيما المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية،  وهو ما سيضع خريطة طريقٍ جديدٍ لكل بلد، وفي بلدان المنطقة بشكلٍ عام من خلال لوحة الصراع السياسي الذي ستأخذ وقتاً ليس بالقصير خصوصاً عندما يكون الإسلام السياسي في الواجهة خلال العقد أو العقدين القادمين، وربما واحداً من الاستحقاقات لما بعد التغيير، وبالعودة إلى هذه المقاربة التي تفترض إن هذا الصراع الأساسي هو بين الإسلاميين والعلمانيين، فإن ثمة اجتهاداتٍ وتوجهاتٍ مغايرة، ولعلها الأكثر واقعيةً والأكثر راهنية، خصوصاً تلك التي تقول إن الصراع ضد الاستبداد الداخلي هو في جوهره صراع ضد الطغيان الخارجي، وفي الوقت ذاته صراع ضد التطرّف والتعصّب وإقصاء الآخر لدرجةٍ لا يمكن فصله عن بعضه، لا سيما وأن هناك ترابطاً بين الطغاة والغزاة والغلاة، الأمر الذي نحن بحاجةٍ إلى قراءة المعادلة على نحوٍ صحيح، خصوصاً وأن العالم العربي يعاني من احتلالٍ وعدوانٍ منذ ما يزيد عن 7 عقودٍ من الزمان من جانب "إسرائيل"، ناهيكم عن محاولات فرض الهيمنة والاستتباع، وهذا يتطلب تعاون الكتل والتيارات السياسية، اليسارية، الماركسية والقومية والإسلامية، لإنجاز مرحلة التحرر من جهة، ومن جهةٍ ثانية السير في طريق الديمقراطية والتنمية .

المقاربة الثانية: الأمن والاستقرار، هو أفضل من الفوضى التي تسود بعد التغيير، وهو ما كانت توفره الأنظمة السابقة، ولذلك فإن التغيير سيجلب معه الانفلات أو الفوضى غير محمودة العواقب والمدى الزمني، وهو ما حصل في البلدان التي سارت بهذا الطريق،  لكن الجواب على هذه المقاربة، هو أن من الطبيعي أن يخلف أي ثورة أو انتفاضة نوعاً من الفوضى أو عدم الاستقرار، لا سيّما وأن الأنظمة السابقة هي التي قوّضت حكم القانون وتغوّلت على القضاء وداست على كرامة المواطن، ولهذا فإن مجرد الشعور العام بتقويض هذه الأنظمة سيدفع إلى الواجهة بعض أعمال التمرّد والفوضى بعد التدمير المنهجي المنظم لعقودٍ من الزمان لمبادئ الدولة القانونية، لكن ذلك لا ينبغي أن يحول دون عملية التغيير التي أصبحت حاجةً ماسةً لا يمكن الاستغناء عنها أو حتى تأجيلها، كما أن بعض الحوادث الفردية والانفلات الأمني المحدود الذي أعقب عمليات التغيير، ينبغي أن يقرأ ضمن هذا المنظور، وأن يتم التعامل معه تاريخياً واستراتيجياً بما له علاقة بقضايا التقدّم وصيرورة العملية التاريخية، دون أن ننسى دور القوى الخارجية في تأجيج ذلك .

المقاربة الثالثة: إن الثورات والانتفاضات ما كان لها أن تنجح أو تستمر لولا الدعم الخارجي، بل أن البعض يتهمها صراحةً أو ضمناً بالعلاقة مع الغرب، أو أن أصابعه ليست بعيدة، وهكذا يجري التهويل من خطر "التدخّل الخارجي"، وزعم المؤامرة التي تحيكها الدوائر الغربية، وهو الأمر الذي تتعارض فيه الرؤى حدّ التخوين أحياناً بخصوص سوريا، وإذا كان الغرب ليس بعيداً عن المؤامرات والمشاريع التي تضمن مصالحه، فإن ضغط العامل الموضوعي أجبره هو أيضاً على الحديث عن إصلاحٍ وتغييرٍ ديمقراطيٍ وتحوّلٍ سياسيٍ – اجتماعيٍ لأنظمةٍ مغلقةٍ أو محافظةٍ أو استبداديةٍ أو ثوريةٍ متسلطة، حتى وإن كان بعضها صديقاً له .

وإذا كان الغرب لاعباً مهماً في أوربا الشرقية في أواخر الثمانينيات، لكن الوضع الداخلي وتطورات الأحداث، ناهيكم عن البيئة التي خلقتها حركة غورباتشوف التي سميت "بالبروستريكا والغلا سنوست" ( إعادة البناء والشفافية )، كانت قد هيأت التربة الدولية المناسبة لعملية التغيير، والتي التقت موضوعياً مع التوجّهات الغربية في إطار الصراع الأيديولوجي وسيل الدعاية الذي كان سائداً بين الشرق والغرب في ظل الحرب الباردة، ولكن الأمر اختلف في العالم العربي، بوجود "إسرائيل" من جهة والنفط من جهةٍ أخرى، فضلاً عن تيارٍ إسلاميٍ أو إسلامويٍ مناقضاً كليّاً للغرب وتوجهاته، حتى وإن جرت محاولات مدّ الجسور معه، فليس من السهولة حساب عملية التغيير بطريقةٍ تقليديةٍ على الغرب وتوجهاته ومؤامراته، ولقد برهنت حركات الاحتجاج الواسعة أن عملية التغيير هي داخلية بالأساس، وأن دور الخارج فيها محدود جداً حتى وإن حاول استغلالها أو استثمارها أو مدّ بعض العناصر التابعة له بالدعم والمساندة، علماً بأنه يستثمر تعنّت الأنظمة ورفضها إجراء التغيير المنشود واللجوء إلى القمع والعنف وارتكاب أعمالٍ لحقوق الإنسان .

ولا ينسى الغرب في هذه الحالة استثمار ذلك لمصالحه الخاصة، سواء في عمليات التدمير أو إعادة البناء لاحقاً، وبالدرجة الأساسية للنفوذ السياسي والعسكري .

المقاربة الرابعة: العرب لا يحتاجون إلى الديمقراطية بقدر حاجتهم إلى التنمية، ونتساءل هل ثمة تعارضٍ بين التنمية والديمقراطية؟ وإذا أردنا إعادة تركيب هذه المقاربة فقد تصل إلى تبريرٍ عنصريٍ ينطوي على استصغار حاجة العرب إلى تأمين الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهي حاجات إنسانية لبني البشر جميعاً .

صحيح أن العرب بحاجةٍ إلى الغذاء والدواء والعمل والصحة والتعليم والسكن كأولوياتٍ لا غنى عنها، لكن من قال أن الإنسان يحيا بالخبز وحده؟ ومن قال أن بالإمكان تأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون تأمين الحقوق المدنية والسياسية، والمساواة أمام القانون بين الرجال والنساء، والمواطنة والحق في انتخاباتٍ دورية وتغيير الحاكم عبر صندوق اقتراع، والحق في المساءلة عبر سيادة القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء، وغير ذلك من عناصر الديمقراطية التداولية السلمية للإدارة والمسؤولية؟

المقاربة الخامسة: إن الدين الإسلامي يحض على العنف والإرهاب وهو دينٌ غير متسامح، وهو مدرسة لتخريج الإرهابيين، وإلا كيف فرّخت المنظمات الإرهابية بهذه السرعة؟ لدرجة إنها لم تعد تقوم بعملياتٍ إرهابية أو تفجيرات، بل احتلال مناطق كاملة وإدارتها تحت عنوان "الدولة الإسلامية"  وهذه الدولة ومختصرها "داعش" سيطرت على ثلث أراضي سوريا وثلث أراضي العراق، وقامت بهدم حدود اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916م، وقل بعد اندحارها في نهاية العام 2017م، فإن وجودها الفعلي كخلايا نائمة قائم بسبب الثقافة التقليدية السائدة وأوضاع الاستبداد وغياب الحريات .تلك أسئلة بحاجة إلى دراسةٍ معمّقةٍ لما بعد التغيير وأعراضه الجانبية، فضلاً عن الحاجة لإعادة قراءة تاريخنا بعينٍ نقديةٍ بما فيه من إيجابيات وهي كثيرة، وبما فيه من سلبيات وهي غير قليلة، كما أننا بحاجةٍ إلى إعادة النظر بالفكر الديني وخطابه الإعلامي والدعائي .

المقاربة السادسة: إن الثورات العربية لم تطرح "القضية المركزية" قضية فلسطين وتضعها في المكان الذي تستحقه (الصدارة) مثلما كانت حركات التحرر تفعل ذلك لعقودٍ من الزمان، وذلك لأن أولوياتها ليبرالية، في حين أن الصراع مع العدو الصهيوني ينبغي أن يشكّل محور عملية التغيير، ويذهب أصحاب هذه الفرضية إلى أنه لم يتم التحرّش باتفاقية كامب ديفيد بعد الانتفاضة المصرية، وأن غياب أنظمة ممانعة كما هي سوريا، مثلا سيؤدي إلى اختلال موازين القوى لصالح الدولة المغتصبة، وإذا كانت ثمة صحةٍ في نصف الاستنتاج الأول، وقد واجهت عملية التغيير مسائل ملحّة كيانياً تتعلق بالحرية والكرامة ومحاربة الفساد واحترام حقوق الإنسان، ولعله لا يمكن الحديث عن مجابهة مع العدو، دون توفر الحد الأدنى من الحريات التي غابت عن عالمنا العربي بفضل أنظمة الاستبداد والدكتاتورية، والحرية هي المدخل لأي مجابهةٍ وأي تغيير، وحتى حق الحياة لا يمكن الدفاع عنه دون توفّر الحد الأدنى من حرية التعبير، ناهيكم عن حق الاعتقاد وحق التنظيم وحق المشاركة، وهي أركان أساسية وهياكل ارتكازية للحريات والحقوق الأخرى .

المقاربة السابعة: إن اندلاع الثورات العربية سيؤدي إلى تصدّع الهويّة الجامعة والمانعة للشعوب العربية، ويعرّض الوحدة المنشودة للاختلال، ويؤدي إلى إنعاش الهويّات الفرعية التي كانت مهمّشةً، وإذا كانت ثمة صحةٍ في هذا الاستنتاج فإن على المنتظم الاجتماعي والسياسي والقانوني أخذها بعين الاعتبار، خصوصاً الموقف من التنوّع الثقافي الديني والقومي والإثني واللغوي وغير ذلك، وإذا كان الأمر صحيحاً، أي أننا شهدنا انتعاش الهويّات الفرعية بعد التغيير لدرجة الفوضى أحياناً، لكن ثمة أسبابٍ موضوعية وذاتية لذلك، وكان لا بدّ لها أن تظهر مشكلة التنوّع والتعددية الثقافية على نحوٍ عاجل أو آجل، فالنار كانت تستعر تحت الرماد كما يُقال، حيث غذّت غالبية الأنظمة العربية، الانقسام المجتمعي تارةً لأسبابٍ دينية وأخرى طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو جهويّة أو إثنية، بهدف الإبقاء على سلطة الحكام بأي ثمن، خصوصاً وهي التي تحكم تارةً باسم الأغلبية القومية والأخرى الدينية وثالثاً الطائفية، وحتى لو كانت "أقليّة" فإنها تتصرف باعتبارها ممثلةً لكل المجتمع، حيث تحاول التسيّد على الهويات الفرعية وغمط حقوقها .

المقاربة الثامنة: تستند إلى سؤالٍ مهم مفاده، هل يمكن إنجاز التغيير الديمقراطي بدون ثقافة؟ ولكن هل علينا أن ننتظر لحين أن تعمّ الثقافة البلاد العربية، لكي نشرع عندها بالتغيير الديمقراطي والثقافة؟ أليس ثمة مثاليةٍ في الأمر وفي جوهر السؤال؟ خصوصاً وأن الديمقراطية هما ركنان أساسيان في عملية التنمية المستدامة بجميع جوانبها، خصوصاً وأن الشعوب العربية من أقصاها إلى أقصاها تفتقر لها، وحتى تتأهل هذه الشعوب فهي تحتاج إلى زمنٍ ليس بالقصير، الأمر الذي يتطلب الاهتمام بالتربية والتعليم، لا سيما وأن هناك أكثر من 70 مليون أمي عربي، غالبيتهم الساحقة من النساء، وإنهن لا زلن بعيدات عن سوق العمل والتأثير، كما هناك بشكلٍ عام مشكلة البطالة، وبشكلٍ خاص لدى جيل الشباب المتخرّج من الجامعات، فضلاً عن معاناة الأرياف بشكلٍ عام من حالات الفقر الشديد، حيث أن متوسط دخل الفرد في بعض الأرياف العربية لا يتعدى الـ 300 دولار في السنة .

ويعاني العالم العربي من نسبةٍ عاليةٍ من هجرة الكفاءات، وتركّز الثروات والمداخيل بشكلٍ كبيرٍ لدى فئةٍ قليلةٍ من رجال الأعمال وبعض المسؤولين الحكوميين، وغياب أي إبداعٍ في الإنتاج السلعي والخدماتي، الأمر الذي يبرز مساوئ الطابع الريعي للاقتصادات العربية، الذي يشلّ قدرات مجتمعاتها الكبيرة، ويحول دون دخولها النهضة العلمية والتكنولوجيا والاقتصادية المطلوبة، خصوصاً اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي والذكاء الصناعي، وعلى النشطاء والمعنيين التوجّه إلى الغالبية الساحقة من الناس الذين، هم بعيدون عن فهم أولويات الديمقراطية، ناهيك عن ثقافتها، بحكم الموروث والعادات والتقاليد، وأحياناً بسبب التربية الدينية الخاطئة التي تجعل من الديمقراطية استيراداً غريباً أو اختراعا مشبوهاً، وقد تكون النخب الفكرية والسياسية مأزومةً ومعزولةً ومحدودةَ التفكير، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من حركةِ تنويرٍ واسعة  .

يضاف إلى ذلك استغلال الحكومات بعض الأطروحات لدمغ بعض دعاة ونشطاء حقوق الإنسان، والمطالبين بالديمقراطية باعتبارها صناعة خارجية، لا سيّما بعض الاستفزازات للوجدان العام أو العقل الجمعي، خصوصاً وقد دخل التمويل على بعض منظمات المجتمع المدني التي لم تكن بعيدةً عن أصابع بعض الأجندات الغربية وضعف حصانتها .

المقاربة التاسعة: إن عدم وجود حاملٍ اجتماعيٍ يعرقل عملية التحوّل الديمقراطي، وقد يكون ذلك صحيحاً، فالقوى الديمقراطية واليسارية الماركسية والقومية والليبرالية بالافتراض الأقرب للمشروع " التحرري "، فهي لا تزال ضعيفةً ومشتتةً وتعاني من مشكلاتٍ مزمنةٍ فضلاً عن ضعف ثقتها بنفسها بسبب ما تعرّضت له من قمعٍ وملاحقة، ناهيك عن أنها ما تزال متشبثةً بالأيديولوجيا وتفترض أفضلياتها على الآخر، أو أنها تمتلك الحقيقة التي تميل حيثما مالت، وتاريخها حين حكمت أو اقتربت من السلطة لم يكن ديمقراطياً، فضلاً عن أنها في علاقتها الداخلية ليست ديمقراطية .

أما الإسلاميون فهم يريدون دولةً إسلامية، وربما غير معنيين كثيراً بالتحوّل الديمقراطي، وإن ما يطرحونه عن الديمقراطية هو مجرّد زيادةِ بعض الهوامش في ظل الدولة الاستبدادية القائمة، تتيح لهم فرصة التحرّك والكسب، وتخفف عنهم الملاحقة والتضييق، وإذا بهم يفاجئون بأن صندوق الاقتراع كان لصالحهم، وهكذا واجهوا مشكلةً عويصةً ومعقدةً لم يفكروا فيها من قبل .

المقاربة العاشرة: تقول إن الشباب الذي فجّر الثورات وقادها، غير مؤهلٍ لإدارة الدولة، لأنه لا يمتلك الخبرات الكافية، الأمر الذي يتطلب الوقوف على هذه الخبرة الكافية، الأمر الذي يتطلب الوقوف على هذه الخبرة من مصادرها، وليس ذلك سوى القوى السياسية التقليدية التي تتمتع بالنضج والحكمة وبعُد النظر، ناهيك عن ضرورة التأني والتبصّر وعدم الاندفاع، ولعل في ذلك محاولةً لمصادرة حق الشباب في قيادة التحوّل الديمقراطي، وإذا كان جزءاً من المقاربة صحيحاً، وهو ما يحتاج الشباب للاستعانة به، لا سيما للعقول والأدمغة المفكرة، فضلاً عن التجارب والخِبَر المتراكمة في الإدارة والاقتصاد والاجتماع والقانون والسياسة، لكنه لا ينبغي النظر إلى الشباب باستصغارٍ، أو من فوق، ففي ذلك نظرة " أبوية بطرياركية لجيل الشباب الذي قاد الربيع العربي على نحو شجاع وحاسم،  وهو ما ينتظر دوره اللاحق، فلا تغيير دون الشباب، والديمقراطية هي تربية وممارسة وتجربة وتراكم، وتحتاج إلى زمن كيما تترسّخ وهذا ما يحتاجه الجميع، وهكذا علينا مراجعة حساباتنا بين الافتراضي والواقع، فالتغيير عمليةٌ طويلةُ الأمد وتحتاج إلى مراجعةٍ وتراكمٍ مستمرين، ونقدٍ وتصحيحٍ وتصويبٍ وتعديل .