ما يزال أبناء شعبنا في بلدة بيتا جنوب نابلس بالضفة المحتلة يسطّرون أروع صور الصمود والتحدي في وجه عدوان الاحتلال وبطشه المُستمر بحق هذه البلدة وأهلها، حيث يواصل أهالي البلدة بصِغارها وكِبارها ورِجالها ونِسائها التصدي والاشتباك مع الاحتلال ومستوطنيه بشكلٍ يومي، بل على مدار الساعة، رفضًا لمخطّطات الاحتلال الرامية للاستيلاء على أراضي القرية وجبل صبيح شيئًا فشيئًا وصولاً إلى تهجير السكّان في سياق السياسة الاستيطانيّة الاحلاليّة التي نشأ عليها هذا الكيان الصهيوني.
بيتا ودّعت أربعة شهداء خلال 45 يومًا، ومئات الإصابات بالرصاص الحي خلال المواجهات التي لا تتوقّف مع جيش الاحتلال الذي يقتنص الأطفال البيتاويين ويتعمّد التسبّب لهم بإعاقاتٍ جسديّة لثنيهم عن هذا النضال، ولكن الأهالي ورغم شعورهم بأنّهم تُرِكوا لوحدهم في هذه المواجهة العنيفة، إلّا أنّهم يواصلون تقديم كل غالٍ ونفيس في سبيل حماية أرضهم وعرضهم.
في الخامس من أيار الماضي، شرع مستوطنون بإقامة بؤرة "جفعات افيتار" الاستيطانيّة على قمة جبل صبيح، التابع لأراضي بلدات يتما وبيتا وقبلان جنوب نابلس، لتزداد وتيرة المواجهات والرفض الفلسطيني في هذه المناطق لهذه المشاريع التي بالتأكيد ستبدأ بـ"بؤرة" وتنتهي بترحيل كل السكّان الفلسطينيين من مناطق سكناهم، لكنّ أهلها ما يزالون يجسّدون المثال والنموذج الحي للمقاومة الشعبيّة في وجه الاحتلال.
وفي هذا السياق، أكَّد الكاتب والمحلّل السياسي مجدي حمايل، أنّ "بيتا مُستهدفة منذ عشرات السنين ويحلم الاحتلال في إقامة مستوطنة فيها، حيث قال "شامير" وقد كان رئيسًا لحكومة الاحتلال في العام 1989 إنّه يجب محو بيتا عن الوجود ووضع مستوطنة كبيرة مكانها، ومنذ ذلك الوقت ومستوطني الاحتلال يحاولون إنشاء بؤرة استيطانيّة على أراضي بيتا، وفي كل مرّة كان الأهالي يهبّون ويقفون وقفة رجل واحد في وجه هذا المُخطّط وإجبار المستوطنين على إزالة هذه المستوطنة".
وبيّن حمايل وهو أحد سكّان بلدة بيتا، خلال حوارٍ أجرته "بوابة الهدف الإخباريّة"، أنّ الاحتلال حاول قبل عام إقامة مستوطنة على جبل العرمة، إلّا أنّه فشِل في إقامة هذه المستوطنة بفعل الصمود والمواجهة الأسطوريّة التي سطّرها أهالي بيتا وانسحب الاحتلال من هذه المنطقة، أمّا في جبل صبيح فهذه المرّة الثالثة التي يحاول الاحتلال وضع مستوطنة على أراضي الجبل، وكالعادة يتصدّى أهالي بيتا بشكلٍ وطنيٍ وحدويٍ جامع ويتحلّلون من الحزبيّة فورًا في وجه الاحتلال وعدوانه المُستمر.
وأشار حمايل إلى أنّه تم إزالة المستوطنات التي كان الاحتلال ومستوطنيه يحلمون بإقامتها على أراضي بيتا، ولكن خلال الآونة الأخيرة استغل الاحتلال انشغال كافة وسائل الإعلام بالعدوان الصهيوني على أهلنا في قطاع غزّة وبدأ بوضع مجموعة من "الكرفانات" من خلال مجموعات ممّا يُسمى "شبيبة التلال"، وبالتأكيد كل ذلك بحماية مشدّدة من جيش الاحتلال، وخلال أسبوع واحد فقط قامت حكومة الاحتلال ببناء 40 وحدة سكنيّة وتم تعبيد الشوارع بشكلٍ كامل مع المرافق الصحيّة والتعليميّة والدينيّة لخدمة المستوطنين في هذه المنطقة، بل كانت حكومة الاحتلال تموّل هذا المشروع بشكلٍ مباشر، وكل هذا في ظل غياب الإعلام الفلسطيني والحكومة والقيادة الفلسطينيّة بشكلٍ كامل.
لن نتراجع حتى طرد المستوطنين
وشدّد حمايل على أنّ "كل هذه الإجراءات، وهذا الخذلان، إلّا أنّ أهالي بيتا لم ولن يتراجعوا حتى صد هذه الهجمة الشرسة لحماية البلدة، ومنذ أن تم وضع أول "كرافان" للمستوطنين في بيتا بدأت المواجهة ولم ولن تهدأ إلّا بطرد كل المستوطنين من هذه الأرض وإزالة كل "الكرفانات"، مُشيرًا إلى أنّ العقل البيتاوي لا يتعامل مع الأمر بموسميّة أو بردّة فعل، بل يتم التعامل مع هذه المواجهات بكل ذكاء وحنكة، حيث نشهد يوميًا فعاليات للإرباك النهاري والليلي مثل: حرق للإطارات بطريقة ذكيّة جدًا، بحيث يتم اشعال هذه الإطارات في حال كان اتجاه الرياح باتجاه المستوطنة لضمان خنق المستوطنين وإرباكهم وإزعاجهم، بل ابتدع أهالي بيتا العديد من وسائل وأساليب المُقاومة التي يجب أن تُعمّم تدرّس للجميع، مثل استخدام الأبواق الصوتيّة العالية جدًا والمزعجة ويقوم الشبّان بتشغيل هذه الأبواق طوال الليل لإزعاج المستوطنين، كما يقومون بتشغيل القرآن طوال الليل عبر مكبرات صوت عالية جدًا وتم توزيعها حوالي المستوطنة أيضًا لإزعاج المستوطنين.
وأكَّد حمايل أنّ ما يميّز أهالي بيتا أنّهم جميعًا على قلب رجلٍ واحد، ويستشعرون الخطر الداهم بكل جديّة وأمانة وحسٍ وطني، فترى النساء والأطفال يُشاركون كل الشباب في المواجهات لحماية أرضهم، ولا ننسى الشهداء الذين رووا بدمائهم أرض بيتا وارتقوا خلال الـ45 يومًا الماضية، مثل: الشهيد عيسى برهم وهو دكتور في القانون الدولي ووكيل نيابة، هذا الدكتور ترك مكتبه المكيَّف وكان في مقدمة الشبّان الذين يرجمون المستوطنة ومن فيها على مدار الساعة، والشهيد الثاني هو زكريا حمايل وهو أستاذ في اللغة العربيّة، وأيضًا كان من أوائل الناس الذين هبّوا للدفاع عن بيتا، والشهيد الثالث هو الطفل محمد حمايل، والشهيد الرابع هو أحمد بني شمسة، حيث تم إطلاق النار عليه بشكلٍ مباشر برصاص "التوتو"، ولكن كل هذه التضحيات لا تثني أهالي بيتا عن التقدّم والمواجهة، بل تزيدهم إصرارًا وعنفوانًا لمواجهة هذا المحتل.
إهمال غير مُبرّر على كافة المستويات
وشدّد حمايل خلال حديثه لـ"الهدف"، أنّ بيتا تُعاني من إهمال إعلامي وصحي وحكومي ورسمي كبير، وهذا الإهمال خاصّة الإعلامي هو غير مُبرّر، وأهالي البلدة متذمرين للغاية من هذا الإهمال، بل يؤكدّون أنّ التركيز الإعلامي على بلدة بيتا لو كان بالشكل المطلوب قد يحمي طفلاً جديدًا من الإعدام بدمٍ بارد، أو من الإصابة والإعاقة، فنحن بحاجة ماسّة إلى نشر قضيتنا بشكلٍ أكبر، ونحن كل ما نقوم به هو حماية أرضنا وجبلنا وكرامتنا، نُدافع عن أبنائنا وأطفالنا الذين قد يتعرّضون للقتل والخطف والحرق في حال تم السيطرة على البلدة والجبل، لافتًا إلى أنّ بيتا وقضيتها مطروحة كبندٍ خاص على جدول أعمال حكومة الاحتلال، ولكن بكل أسف هي غير مطروحة على جدول أعمال الحكومة الفلسطينيّة!، كما يُعاني أهالي بيتا من إهمالٍ طبيٍ كبير في المستشفيات الحكوميّة، ونحن ندعو وسائل الإعلام للحضور وسؤال المُصابين ما هي أوضاعهم الصحيّة الآن جرّاء هذا الإهمال والتقصير الطبي.
ولفت حمايل إلى أنّ قرى جنوب نابلس عدد سكّانها 155 ألف نسمة موزّعين على 25 قرية، وبينهم وبين مستشفى رفيديا وباقي المستشفيات حاجز حوّارة العسكري، والشهيد أحمد عودة الذي ارتقى قبل شهرين كان سبب استشهاده أنّ أحد جنود الاحتلال على حاجز حوّارة قرّر إغلاق الحاجز، وتركوا الشهيد ينزف لأكثر من ساعة ونصف إلى أن تصفّى دمه كاملاً، لذلك نقول لكل القيادات والسلطة والحكومة أنّ بيتا لا تنتمي إلى أي لونٍ سياسي، بل نحن أبناء الجبل وأبناء البلد.
ودعا حمايل كافة وسائل الإعلام إلى الحضور اليوم الجمعة وتغطية المواجهات والأحداث في بيتا، لأنّنا نقول أنّ بيتا هي كما غزّة، واللد، و القدس ، والرملة، وكل شبر من أرض فلسطين، فبالتالي يجب التركيز على بيتا كأي أرض في فلسطين، لأنّنا نرى أنّ "الإعلام هو شريك في جرائم الاحتلال من خلال إهماله وتقصيره تجاه كل هذه التضحيات والدماء التي تسيل يوميًا على أراضي بيتا وجبل صبيح، ونؤكّد من جديد أنّ استفراد الاحتلال ببيتا وأهلها هو بفعل عدم التركيز الإعلامي على كل هذه الجرائم التي يرتكبها الاحتلال، والجمعة الماضية فقط كان لدينا 290 إصابة أغلبهم برصاص "التوتو" ورصاص القنّاصة، وهناك عدد كبير من الإصابات في منطقة الرُكبة بقصد الإعاقة والشلل، وهناك أكثر من 70 إصابة في بيتا تمشي على عكّازات، ما يحصل في بيتا هي جرائم حقيقيّة بكل معنى الكلمة فقط لأنّنا نُدافع عن أرضنا ونرفض وجود أي مستوطن فيها".
وفي ختام حديثه، قال حمايل: "تتحدّث القيادة الفلسطينيّة عن المقاومة السلميّة؟، نحن في بيتا نُمارس المُقاومة السلميّة، ونضالنا سلمي، وكل مواجهاتنا سلميّة، فلتأتوا إذًا إلى ساحة المواجهة! ولا تتركوا بيتا لوحدها في وجه هذه العدوان"، موضحًا أنّ "حكومة الاحتلال قرّرت إزالة البؤرة الاستيطانيّة، ولكن جُمّد القرار، ولهذا نقول إن التركيز الإعلامي من الممكن أن يُساهم في تنفيذ قرار الإزالة في أسرع وقتٍ ممكن، ونحمي أبنائنا من الإصابة والإعدام".
يُذكر أنّ هذه الصمود الأسطوري لأبناء شعبنا في بيتا ليس بالجديد على أهالي القرية التي اعتادت على المواجهة والتحدي، حيث كان أهالي بيتا من أوائل من شاركوا في "انتفاضة الحجارة" وفي يوم 6 يونيو عام 1988 واجهوا بالحجارة مجموعة من قاطني المستعمرات القريبة من بيتا، وقد أستشهد يومها ثلاثة من سكّانها.
ويعود أصل تسمية هذه البلدة الصامدة إلى أصلٍ سرياني معناه الأهل أو البيت، وتقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة نابلس وتبعد 13 كم عن مدينة نابلس وتعتبر عاصمة لمجموعة مشاريق البيتاوي والتي تضم إحدى وثلاثين قرية وتمتد أراضيها على الرقعة الجغرافية الواقعة بين قريتي حوارة وقوزة غربًا وقرية عقربًا شرقًا ومن قريتي عورتا واودلة شمالاً إلى قرى يتما وقبلان واوصرين جنوبًا، فيما تبلغ مساحتها ستة وسبعين ألف دونم، معظمها مزروع بالزيتون واللوز والتين والعنب، حيث تعتبر بيتا البلد الأول في إنتاج الزيت في محافظة نابلس.