Menu

غسان كنفاني.. زهرةُ الشّعبِ المقاتل

د. أحمد الخميسي

غسان كنفاني

عاش غسان كنفاني ستةً وثلاثينَ عامًا فقط، وما زال يثير الدهشةَ ذلك العطاءُ المتنوّعُ خلالَ عمرٍ قصيرٍ بترته عبوةٌ ناسفةٌ في صيف 1972. نحن أمامَ قاصٍّ، روائيٍّ، مسرحيٍّ، مفكرٍ ثوريٍّ، مقاتلٍ في صفوفِ الجبهةِ الشعبيّة، صحفيٍّ، كاتبٍ سياسيٍّ، رسامٍ، كاتبٍ مسرحيٍّ، بل واستعملَ النحتَ والشعر، غيرَ ما تركه من دراساتٍ نظريّةٍ غاية في الأهمية. كانت حياته القصيرة المتوهجة بإبداعه أقربَ إلى عاصفةٍ خرجت من مخيّمات نكبة 1948؛ لتعبّرَ عن الكرامةِ والوطن، وتحملَ معها إلي العالمِ صورةَ المخيّمات، وقضيّةَ شعبٍ سُدّت أمامَه كلُّ الأبواب، فلم يبقَ له سوى دخولِ التاريخ برأسٍ ثابتٍ كالرمح؛ لأنّ الوطنَ لا يُستبدل بشيءٍ آخر.

يقول كنفاني في رسالةٍ له: "حاولت منذ البَدْءِ أن أستبدلَ الوطنَ بالعمل، ثم بالعائلة، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة. وكان دائمًا يعوزني الانتسابُ الحقيقي.. كنت أريد أرضًا ثابتةً أقفُ فوقها"، ولم يرَ كنفاني أرضًا سوى أرضِ الوطن، لذلك يكتب في إحدى رسائله: "سأظلُّ أناضلُ لاسترجاعِ وطني؛ لأنه حقّيَ وماضيَّ ومستقبليَ الوحيد، لأن لي فيه شجرةً وغيمةً وظلَّ وشمسٍ تتوقّد وغيومًا تمطر"، ورافقته فلسطينُ أينما ولّى وجهَه، وأينما عاش، في الكويت عام 1956، وفي بيروت 1960 حيث عمل في جريدةِ "الحرية" ثم حين ترأس تحرير "الهدف" مجلة الجبهة الشعبية، إلى أن هوى النجمُ العالي يوم سبت 8 يوليو عام 1972، في لحظةٍ ما زالت الذاكرةُ تستعيدها بلا نهايةٍ بصفتِها ميلادًا متجدّدًا لغسان الذي لا يموت.

ظهر غسان في اللحظةِ التي خيّم فيها ظلامُ الهزيمة على المنطقةِ العربيّة بعد نكسة 1967، وبزغ مثل الأجراس التي تقرع وتبشر بالصمود والمقاومة والأمل، وشكّل ثورةً أدبيّةً وفكريّةً مع محمود درويش وناجي العلي، هزّت الضمائرَ وأفسحت للنور مجالًا. لست هنا في مجال استعراضِ أعمالهِ الأدبيّة، لكنني أذكّر بها فحسب: مجموعتان قصصيتان "موت سرير رقم 12" عام 1961، و "أرض البرتقال الحزين" عام 1963، وفي تلك المجموعات قفز كنفاني بفنِّ القصّةِ القصيرة الفلسطينيّة، التي بدأت مع الرائدة سميرة عزام قفزةً كبيرة، كما ترك لنا ثلاثَ مسرحياتٍ هي: "الباب" و "جسر إلي الأبد" عام 1965 ، و "القبعة والنبي" في 1967، ثم أضاف إلي إنتاجهِ الروائي ثلاثَ رواياتٍ أخرى هي "ما تبقى لكم" و "أم سعد "، و "عائد إلي حيفا "، غيرَ روايتهِ التي أيقظت الضمائر "رجال في الشمس" عام 1963 وأشعلت الوعي بالقضية الفلسطينية عن طريق الأدب، هذا علاوة على أربعِ كتبٍ مهمةٍ هي: "الأدب الفلسطيني تحت الاحتلال" ، "المقاومة ومعضلاتها" ، و"ثورة 1936"، وأخيرًا كتابه المهم للغاية "في الأدب الصهيوني"، وفيه يقوم كنفاني بتحليل التوجّهات الصهيونيّة الأدبيّة المبكّرة، وفكِّ عقدةٍ من خيوطٍ تشابكت فيها مفاهيمُ "القومية"، و"الدين"، و"اللغة" عند الحركةِ الصهيونيّة. وبدايةً، يشير كنفاني إلى أن اللغةَ العبريّة لم تكن سوى لغةِ طقوسٍ دينيّة، حتى أنّ عددًا كبيرًا من اليهود كانوا ينطقون التراتيل ولا يفهمون معنى كلماتها، لكنّ الحركةَ الصهيونيّة حولتها إلى مرادفٍ للقوميّة، خلالَ اختلاقِ قاعدةٍ عسكريّةٍ تخدم الاستعمار. ويقول في هذا السياق إن: "الحركة الصهيونية قاتلت بسلاحِ الأدب قتالًا لا يوازيهِ إلا قتالُها بالسلاحِ السياسي.. وليس من المبالغةِ القولُ: إن الصهيونيّة الأدبيّة سبقت الصهيونيّة السياسيّة". وعندما يستخدم كنفاني مصطلح "الأدب الصهيوني" فإنه يعني الأدب المكتوب بأي لغةٍ سواءً العبرية أو غيرها، وسواءً كتبه أدباءُ يهودٌ أو غيرُ يهود، طالما كان ذلك الأدب يخدم حركةَ الاحتلال والاغتصاب. وهنا من الضروري التوقّفُ عند حقيقةٍ واضحةٍ، وهي أنّ التاريخَ الإنسانيّ لم يعرف قطُّ قوميّةً تشكّلت في سبعين عامًا أو حتى في قرنٍ من الزمن. وثمّ، فإنّ الحديثَ عن "أدب إسرائيلي" حديثٌ مغلوطٌ من الأساس؛ لأنّ الأدب وثيقُ الارتباط بالقوميّة، كما لم يعرف التاريخُ ابتعاثَ لغةٍ ميّتةٍ بصورةٍ مفتعلةٍ لتمكينِ الوهمِ العقائدي بحقٍّ مزعومٍ في أوطان الغير. وهكذا يضع كنفاني يدَهُ على أننا لسنا إزاءَ "قوميّة" ولا نحن إزاءَ "لغة". ما هو الأدب الإسرائيلي إذًا؟ إن كان الأدبُ، كلُّ أدب، يتحدّد وَفْقًا للغتِه؟ وإن كنا حين نقول "الأدب الإنجليزي" فإننا نشير إلى اعتمادهِ على لغتهِ أساسًا، وكذلك الأدب العربي، والفرنسي. اللغةُ هي العاملُ المحدّد، وعمليًّا لن نجد "لغة" بهذا المعنى في إسرائيل، لكنّ اللغات التي جاء بها المستوطنون من مختلِف أنحاءِ العالم. ولذلك كما يشير كنفاني، فإنّ معظمَ الأعمال الأدبيّة "الصهيونية" لا ترقى للأعمالِ الأدبيّة بالمعنى المعروف، لكنها تسقط في فخِّ الدعايةِ السياسيّةِ للصهيونيّة، وليس أدلُّ على ذلك مما كتبه صموئيل يوسف عجنون (الروائي الاسرائيلي الحاصل على نوبل 1966 في روايته "تمول شلشوم" ) من أن: "العرب يشبهون الكلابَ في جلستِهم، وهم أعداءُ الحضارة. وقد حوّلوا مركزَ الحضارةِ اليهوديّةِ في فلسطين إلى إسطبلاتٍ لحميرهم"! وربما لذلك تحديدًا فاز بجائزة نوبل!

لقد عرّى الكاتبُ العبقري، ابنُ مخيّماتِ الشعب الفلسطيني الكذبةَ ونفخَ في فقاعاتِ الوهم، ولهذا السبب تحديدًا، فإنّ ما يقلق الكيان الصهيوني – في كلّ مرّةٍ تتم فيها مواجهةُ الشعب الفلسطيني- ليست الخسائر العسكريّة، لكن اهتزازُ ثقةِ الكيان في شرعيّةِ وجودهِ من الأساس، هكذا كشفت انتفاضةُ غزّة الأخيرة عن ذلك القلق الذي يلازم اللصوصَ حين يحشون جيوبَهم بأوطان الغير. في ذكرى رحيل كنفاني، أستعيدُ قولَ أنطون تشيخوف "يرحل من الأديب نصفُه، ويبقى نصفُهُ حيًّا في إبداعه". تبقى معنا، مبدعًا، وموهوبًا، وصادقًا، تبقى مع حنظلةَ ومع قصائدِ محمود درويش، ومع دموعِ الأمهات، وتبقى للغد، وللانتصار، حين نرسم صورتَكَ على جداريّةٍ كبيرةٍ في فلسطين.