Menu

إيرانُ وطالبان.. حربُ الظلِّ لفرضِ معادلاتٍ جديدة

محمد أبو شريفة

نُشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة الهدف الإلكترونية

تباينت الآراءُ والتوقّعاتُ حولَ مستقبلِ أفغانستان على الصعدِ كافةً، بعدَ انسحابِ الاحتلالِ الأميركي ‏وتمكّن حركة طالبان من السيطرة على مقاليد الحكم بسهولة؛ علمًا أنّ ميزانَ القوى يميل لصالحِ الحكومة التي تمتلك ثلاثةَ أضعافِ قوّةِ طالبان العسكريّة.

وأمامَ صدمة العالم للأحداث المتلاحقة في أفغانستان، والتي لم تتّخذ صورتها النهائيّة بعد، إلا أن الدول المحيطة بها لم تشعر بحالة الصدمة؛ لأسبابٍ تتعلّق بالزيارات المكوكيّة التي اتّبعتها طالبان مع تلك الدول طوال العام المنصرم. ومن المرجّح أنهم صاغوا اتّفاقياتٍ واضحةً لتنظيم العلاقة فيما بينهم بعد خروج المحتل الأميركي. وتعدّ إيران من أبرز تلك الدول المعنيّة بالشأن الأفغاني، التي سعت منذُ سنواتٍ إلى بناء علاقةٍ مع حركة طالبان؛ تقوم على المشتركات والمصلحة الثنائيّة، وهي مجابهة المحتل الأميركي، وتقاطعت المصلحة في هذه الجزئيّة؛ وعلى إثرها تنوّع الدعم الإيراني لأفغانستان في عددٍ من المجالات الحيوية، لكنّ المرحلة الحاليّة تقتضي بناء علاقةٍ من دولةٍ إلى دولة، بعد أن أنجزت الحركة مهمتها في التحرير. لذلك يكمن الترقّب الأكثر إثارةً، حاليًّا، حولَ مستقبل العلاقة بينهما، وتأثيراتها على مجمل تحوّلات الشرق الأوسط؛ فبالرغم من عقود العداء التقليدي، إلا أن السنوات الماضية شهدت تنسيقًا بين الطرفين، واستطاعت إيران، في بعض الأحيان، توظيف طالبان بأكثرَ من اتجاهٍ لمقارعة الأميركيين وقتالهم، سيّما في محافظات هرات، وفرح، ونيمروز؛ وهناك من يتوقّع أن طالبان لن تعادي إيران؛ خصوصًا، أنها تعاني من عقوباتٍ دوليّة، ويتحدّث البعض عن علاقةٍ سريّةٍ قائمةٍ بينهما، فيما يرى آخرون أن أولويات كابل التي ستتكشف قريبًا هي سنّ الأنياب وغرسها في خاصرة الجارة إيران؛ لأسبابٍ عديدةٍ، أهمها: الخلاف المذهبي وما يترتب عليه من تداعيات، وكأن واشنطن هنا توظّف حركة طالبان، كجماعةٍ سنّيّةٍ مقاتلة، ضد ‏الإيرانيين، في إطار استنزاف قدراتهم؛ عبر فتح جبهات شرق إيران، وإشغالها بهواجس تأمين حدودها الشرقيّة وحمايتها، التي تتشارك مع أفغانستان بطول أكثر من 900 ‏كيلومتر؛ الأمر الذي سيدفعها - بحسب مؤيدي هذه النظرية - ‏للانسحاب طواعية من مناطق في سوريا و العراق.‏ وربما تنفيذ سيناريو أميركي من خلال حلفاء إقليميين بنقل جموع المجاهدين الإسلاميين الموجودين في المنطقة إلى أفغانستان، بما ‏يفتح جبهاتٍ متزامنةً ضد "إيران وروسيا والصين"، ‏وهذا الترقّب لم يتضح بعد، سيّما في ظل وجود ‏تقاطعاتٍ مع أنقرة وموسكو.  

لا شكّ بأن التطورات الأفغانية تثير القلق في إيران؛ خصوصًا، أن تاريخ العلاقة بين الطرفين خلال فترة حكم طالبان في ‏أفغانستان وإقامتها "الإمارة الإسلامية" بين العامين 1996 و2001؛ يحتفظ بذكرى أليمةٍ وقعت بينهما عام 1998؛ ذهب ضحيّتَها ثمانيةٌ من عناصر "فيلق القدس " ومراسلٌ في القنصليّة ‏الإيرانيّة في مزار الشريف، مما كاد بإيران أن تشنّ هجومًا عسكريًّا انتقاميًّا، إلا أنه لم يحصل. ‏لذلك فإن سيناريو المواجهة المفترض راهنًا بين الطرفين؛ يبدو أنه مجرد سيناريو وهمي لا يمتّ إلى الحقيقة بصلةٍ، وهو قائمٌ على أوهامٍ إعلاميّةٍ غيرِ مرتبطةٍ بأيّ قرارٍ سياسي، ومن المرجّح أن يكون هذا السيناريو صنيعةَ لحظة العجز التي تعيشها دولٌ عربيّةٌ وإقليميّةٌ وازنة. في المقابل؛ فإنّ إيران تمتلك القدرة اليوم على إقامة نظامٍ من المصالح المشتركة بين البلدين على الأصعدة كافةً: الاقتصاديّة، والتعليميّة، والصحيّة وغيرها. فحتّى هذه اللحظة ما تزال السفارة الإيرانيّة في كابل بجانب شقيقاتها الروسية والصينية، وهذا يعني أن مشروع طريق الحرير يسير في اتجاهه السليم؛ فالمسألة هنا مرتبطةٌ بعلاقاتٍ إقليميّة، وأفغانستان جزءٌ منها، وتاليًا السيناريوهات التصادمية لن تجد في أغلب الأحوال موطئَ قدمٍ على أراضي الأفغان، لأنه بكلّ بساطةٍ لا تمتلك الحد الأدنى من المشروعية.

لعلّ أفغانستان بوضعها الحالي تشكّل فرصةً للوجود الإيراني، ‏والحصول على ورقة ضغطٍ جديدةٍ تضاف لأوراق طهران في المنطقة؛ ‏فثمة تيار في إيران يرى أن ما يحدث في أفغانستان؛ يوفّر الفرصة ذاتها ‏التي سبق أن توفرت لها في العراق، وربما يدفع هذا التيار بقوةٍ ‏نحو تحسين العلاقات مع طالبان؛ رغمًا من تباينات الأيديولوجيا والعقيدة بينهما، حيث لم تمانع مستويات إيرانية محافظة التعامل مع الحركة وَفقًا لصحيفة "كيهان" التي نقلت عنهم أن: (طالبان تؤكد أن لا مشكلة لديها مع الشيعة ‏واحترامها لحدود إيران (…)، لكن مقاربتها القائمة على القوة ترسم ‏مستقبلًا غير مضمونٍ بالنسبة إلى الشيعة وإلى حدود بلادنا).‏

ويرى المتخصص بالشأن الإيراني كليمان تيرم، أنه بالنسبة إلى طهران؛ فحركة طالبان "تغيّرت لأنّها ‏تبدو ‏اليوم أقل خطرًا من داعش"، وضمن هذا الإطار التقى في 27 كانون الثاني (يناير)؛ رئيس "المجلس الأعلى للأمن القومي" ‏الإيراني علي شمخاني، مع المُلّا عبد الغني برادر؛ الرئيس الدبلوماسي ‏لحركة طالبان، وأشاد الأول بصمود الحركة في المعارك ضد الولايات ‏المتحدة، إلا أنه أشار أيضًا إلى أن طهران لن تعترف بأي فصيلٍ أفغاني ‏يستولي على السلطة بالقوة، ولطمـأنته عرض الملا عبدالغني التعاون مع ‏إيران على تأمين حدودها مع أفغانستان.‏ واستضافت الخارجية الإيرانية بدايات شهر تموز (يوليو) الماضي؛ ممثلين عن ‏الحكومة الأفغانية وحركة طالبان للبحث في استشراف المرحلة القادمة وكيفية التعامل سياسيًّا وأمنيًّا مع الفراغ الذي أحدثه رحيل القوات الدولية والأمريكية؛‏ الأمر الذي يؤكد أن الدبلوماسية الإيرانية تسعى لفتح نوافذ التواصل مع طالبان، وفي الوقت ذاته؛ تبحث عن دورٍ إلى جانب روسيا والصين بعد الانسحاب الأميركي،‏ بالإضافة إلى ذلك تقوم بتعزيز انتشارها العسكري على ‏الحدود الأفغانية. ‏

‏ويبقى القول الفصل بالتعامل الإيراني مع مستجدات الواقع الأفغاني؛ مرهونًا بحجم التهديد الذي يمكن أن تواجهه إيران مستقبلًا، سواءً ‏بشكلٍ مباشرٍ من خلال حدود الدولة – تدفق اللاجئين وعمليات التهريب – أو عبر الاحتكاك بمصالحها في الداخل ‏الأفغاني، ولهذا اتّبعت طهران استراتيجيةً مزدوجةً مفادُها ‏التعاونُ مع "عدو الأمس" – طالبان - وفي الوقت ذاته؛ تعزيز شبكة مصالحها الاقتصادية وتكريسها، ودعم حلفائها في الداخل الأفغاني ‏لاستخدمهم حين الضرورة. ومن الممكن القول: إن إيران تدرس عديد الخيارات تحسّبًا لأي طارئٍ خطيرٍ ‏يزعزع استقرار جارتها ويعزز مصالحها هناك، وتكمن هذه الخيارات ‏بالتدخل المباشر، أو خوض غمار حربٍ بالوكالة، أو دعم سيطرة الحركة ‏ضمن اتفاقيةٍ استراتيجيةٍ وتكتيكيةٍ من أجل احتوائها والحد من أنشطتها.‏

الجميع يترقب الأيام القادمة وما ستكشفه من حقيقة تصرفات طالبان؛ هل تكون كما عهدناها في السابق؟ أم أن رياح التغيير ستصيبها بما ينسجم ولغةَ الدبلوماسية الدولية، لأن ثمة مؤشراتٍ تقول بأنها تنوي الحكم بأسلوبٍ وسلوكٍ مختلِف، وربما دلّ على ذلك إعلانها عفوًا عامًّا عن ‏كل موظفي الدولة، بعد مغادرة القوّات الأميركيّة والدوليّة، وعلى الأرجح لن نحتاج إلى ترقّبٍ طويلٍ حتى تتكشّف لنا نوايا طالبان؟

وبالتأكيد فإن العلاقة الأفغانية الإيرانية؛ ستمر بالكثير من التحولات والمحطات، ولكنها في النهاية ستحافظ على مصالح الطرفين وبالتراضي، والمستقبل كفيلٌ بانكشاف الصورة؛ آخذين بعين الاعتبار أن العلاقة التاريخية بين البلدين، وطوال العقود الماضية، كانت تقوم على المشتركات السلمية، وما بين سيناريو المواجهة وسيناريو تعزيز العلاقة؛ ثمة مقدارٌ من التباعد، ولكن الأقرب استيعابًا إلى الفهم والتحقّق هو سيناريو العلاقات الإيجابيّة.