Menu

عندما تعلو أخلاقهم على حريتهم

راسم عبيدات

لا أحد يجادل في حق الأسير الفلسطيني أن يبحث عن حريته بكل الطرق والوسائل، وعملية تحرير الأسرى لأنفسهم من سجون ومعتقلات الاحتلال، جرت في أكثر من سجن ومعتقل كانت بدايتها في سجن غزة المركزي 18/5/1987 وعلى يد خلية من أفراد الجهاد الإسلامي، وإن فشل معظمها... ولكنها جسدت إرادة وتصميم من قبل أسرى شعبنا على نيل حريتهم، وتلك المحاولات والعمليات التي جرت شكلت "بروفا " لعملية "نفق الحرية" التي قادها ستة من أبطالنا الأسرى. هذه العملية يمكن تسميتها بالعبور المستحيل لكونها جرت في أكثر سجون الاحتلال أمناً وتحصيناً.. وضربت المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيلية في عصبها الرئيسي، وكذلك هذه العملية طول المدة التي استغرقتها في الحفر من شهر كانون أول عام2020، وحتى 6/9/2021، تعكس مدى الدقة في التخطيط والتحضير لهذه العملية، وامتلاك وسائل التمويه والخداع والتضليل والإخفاء لأدوات الحفر، في ظل سجن تجري فيه عمليات "عد" للأسرى بواقع 4 مرات يومياً، وفحص ليلي مكثف يسلط الضوء على أسرة الأسرى للتأكد من وجودهم، وكذلك عمليات "الدق" الأمني، بفحص الزنازين ب"الدق" على أرضياتها وجوانبها، وفحص الحمام بشكل دقيق، ولا ننسى عمليات التفتيش الفجائي. 
نعم هي عملية اختراق اختزنت معاني البطولة والإصرار والعزيمة، وكذلك هي عكست حالة ضعف وتراجع في مؤسسة الاحتلال الأمنية وعدم نجاح في تحويل سجن "الخزنة" الى مصير نهائي للأسرى من أبناء شعبنا من الأحكام العالية واخراجهم من دائرة الصراع، وهذه العملية بحجمها ونوعيتها جعلت بعض أصحاب النفوس المريضة والدونيين والمنهارين يشككون في وقوعها، وبأنها ضرب من الخيال، والبعض قاده مرضه النفسي وربما حقده الى القول بأن هذه العملية مفبركة، أو أنها تمت بالتواطؤ مع أجهزة الاحتلال، لكي تصرف الأنظار عن ما يحصل في قطاع غزة؛ تلك العملية التي حاول المحتل أن يخفي ويغطي فشله في منع وقوعها، بأنها جرت بالتعاون مع سجانين أو ان الظروف خدمت الأسرى، مثل نوم المجندة على برج المراقبة لحظة تحرير الأسرى، وعدم انتباه حارس آخر الى الكاميرات ومتابعتها...الخ، وأن عملية بهذا الحجم تمت بمساعدة الخارج، وبأن هناك سيارة كانت تنظر الأسرى خارج السجن.
العملية كما وصفها الأبطال المنفذين تمت تحت أنف الاحتلال، وجرى تسريع التنفيذ لشك أحد السجانين، وتخطى الأسرى كل وسائل الأمن والتحصين والتكنولوجيا والعناصر البشرية التي تدير تلك الأجهزة.. وأربعة منهم استطاعوا تنفس الحرية والتجول في وطنهم لمدة خمسة أيام.. وأن يأكلوا من صبره وتينه و"بوملته" وأن يخالطوا أطفال شعبنا، ويُقبل القادري أحدهم، ولكن ظل هاجسهم الأكبر بأن لا يلحقوا الأذى والضرر بأبناء شعبهم، ولذلك كان لديهم قرار بعدم الدخول الى بيوت أبناء شعبنا في الداخل الفلسطيني- 48- خوفاً عليهم لا خوفاً منهم، رغم أن من نال حريته بهذه الطريقة البطولية، حقه على أبناء شعبه أن يطلب مساعدتهم، ولكنهم جعلوا أخلاقهم وإنسانيتهم فوق حريتهم، وتلك هي اخلاق المناضلين الأحرار، رغم القناعة التامة بان الكثير من أبناء شعبنا كانوا سيحضنونهم لو توجهوا إليهم.
الاحتلال وأجهزة مخابراته، بعد أن ألقوا القبض على الأسيرين محمود العارضة ويعقوب القادري، وظفوا كل أجهزتهم الأمنية والإعلامية، لكي يثبتوا روايتهم عن هذين البطلين، فهي وصفتهم بالجوعى الذين "يتسولون" الطعام قبل القاء القبض عليهم، ومن بعد إلقاء القبض عليهم وعلى الأسيرين زكريا الزبيدي ومحمد العارضة، أرادت في نقل أخبارها  وما ضخته من أخبار عبر وسائل إعلامها، ضرب الحالة المعنوية عند أبناء شعبنا، بأن دولتهم قادرة على الوصول إلى هؤلاء الأسرى وإعادة اعتقالهم، وبأن مثل هذا الخيار لن يجدي نفعاً وبان كلفته باهظة الثمن، وليس فقط يلحق الضرر بهؤلاء الأسرى، بل بكل أسرهم وعائلاتهم ومحيطهم الاجتماعي وأبناء الحركة الأسيرة.
المحتل بأجهزة مخابراته ووسائل إعلامه، شن حرباً نفسية على شعبنا الفلسطيني، وحاول أن يثبت روايته عبر الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وفق استراتيجية ممنهجة، يشاركه فيها من هم مؤمنين بقدراتها الخارقة، من أصحاب نهج الذل والإستكانه، وكذلك من المراهقين  وصبية الفيسبوك ،وأيضاً سعى الى بث ونشر الفتنة بين أبناء شعبنا، بالقول بأن هناك من هم متعاونين معه من أرشدوا ودلوا على اماكن وجود أسرانا، وحتى وإن بدت المعلومة التي نقلها الأسير القادري دقيقة، بأن هناك من وشى بهم، فهي لا تشكل بأي شكل من الأشكال حجة وإدانة لشعبنا في الداخل الفلسطيني، هذا الشعب الذي كان صوته يصدح عالياً ويهتف لأسرانا الأبطال أثناء نقلهم ووصولهم للمحكمة المركزية في الناصرة، شعبنا عظيم وناصرة توفيق زياد، لم تكن في يوم من الأيام، سوى متوحدة وتلاحمة مع شعبنا في نضالاته وتضحياته، وشاهدنا ذلك في معركة "سيف القدس "، وفي كل الاحتلالات يكون هناك متعاونين مع المحتل من يخونون وطنهم، ومن يغرر بهم أو من ينحازون لمصالحهم، وكل احتلال يعمل من أجل تجنيد أعوان ومرتزقة له من اجل خدمة اهدافه ومصالحه، حدث ذلك أيام الاحتلال الفرنسي للجزائر والألماني لفرنسا والأمريكي لفيتنام والإسرائيلي لجنوب لبنان، وحصل عندنا، تجربة روابط القرى وغيرها.
والمأساة الأخرى في قضية الأسرى المحررين المعاد اعتقالهم والأسيرين اللذان ما زال طليقين، الكم الكبير من الأخبار الكاذبة والإشاعات التي نشرت وينشرها صبية ومراهقين وجهلة، تتعلق بالأسرى أنفسهم، كما جرى في قضية الأسير الزبيدي وصحته.. ونحن لا نجادل بأن أسرانا تعرضوا إلى تعذيب عنيف ووحشي وصفه أسرانا لمحاميهم، ولكن لا يجوز بث الأخبار الكاذبة والمفبركة، ليس فقط من الناس البسطاء، بل من هم يرغبون في تسليط الضوء عليهم من إعلاميي التهريج والتشويق وأصحاب من يسمون أنفسهم ب"السبق" الصحفي "أبو العُريف".
الرواية التي رواها أسرانا الأبطال محمود ومحمد العارضة ويعقوب قادري وزكريا الزبيدي عن الأيام الخمسة التي هزت الكيان، يجب أن تكون درساً من دورس "التربية الوطنية" لكل أطفال فلسطين، كي لا ينسى البعض أن "نفق الحرية" لشعب فلسطين مفتوحاً دوماً إلى أن يصل إلى ذلك الضوء في نهايته.
والرسالة التي كثفتها وعبرت عنها عملية "نفق الحرية"، ليست فقط  للمحتل وأجهزة أمنه ومخابراته، لكي تقول له بأن إرادة الأسير الفلسطيني، قادرة أن تتفوق على كل أجهزة أمنه وتخترقها في أكثرها تحصيناً وامناً، بل هناك رسالة أخرى، وهي الأقوى لصناع القرار والسلطتين في رام الله وغزة وقادة الأحزاب والفصائل الفلسطينية على مختلف مشاربها السياسية بأن عملية تحرير أسرانا لأنفسهم من سجن "الخزنة" بهذه الطريقة، تلك الرسالة التي عبر عنها الأسير صالح ابو مخ من باقة الغربية بعد ان قضى 35 عاماً في سجون الاحتلال، أنا لست بالأسير المحرر ولم يحررني أحد  ولا يزايد علي أحد، أنهيت مدة حكمي وخرجت من السجن... الرسالة تقول هناك أسرى مر على وجودهم في سجون الاحتلال أكثر من 30 عاماً وهم يقولون طال الانتظار وطالت الوعود وطال الاستثمار في قضيتنا، أين أنتم؟!