اتضاح وانسداد الأفق أمام خيار التسوية والمفاوضات؛ برهنت عليه تجربة ثلاثة عقود من مؤتمر مدريد ووادي عربة وأوسلو وملاحقه السياسية والأمنية والاقتصادية على الجبهات العربية، وقبلها اتفاقات كامب ديفيد على الجبهة المصرية إلى الجبهة الأردنية، إلى أن حط رحال التسوية على مسار السلطة الفلسطينية التي استخدمت منظمة التحرير في التوقيع والاعتراف بالكيان الغاصب وإلى التنازل عن (٧٨ بالمئة) من مساحة فلسطين التاريخية.
رغم كل التنازلات الفلسطينية ومحاولة تزيين ومكيجة الوجه القبيح لاتفاقيات أوسلو؛ أثبتت تجربة وخيارات التفاوض فشل حل الدولتين والمراهنين عليه ورعاته؛ من الولايات المتحدة الأمريكية والأوربيين والرباعية الدولية وجوقة التطبيع العربي الرسمي، الذي وصلت مدايات التطبيع فيه إلى حد التحالف الوقح مع العدو ضد الشعب الفلسطيني والتآمر على حقوقه الوطنية.
إن الاعتراف بفشل خيار التسوية والتفاوض؛ نقطة البدء لأي مراجعة وطنية شاملة، بهدف بناء رؤية واستراتيجية مقاومة بديلة، بعد هذا السقوط الوطني المدوي لأصحاب ونهج المفاوضات حياة.
إن الاعتراف بأن الاحتلال الصهيوني لفلسطين (خمسة نجوم)؛ يطرح سؤال: كيف يمكننا أن يكون الاحتلال لأرضنا مكلفًا بشريًا واقتصاديا وعلى كافة المستويات لإجباره على الرحيل بالقوة؟
إن جبهة المقاومة الشاملة ليست بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية، بل تهدف لاستعادة المنظمة المخطوفة؛ من قبل السلطة وتبرأها من كل التواقيع التي استخدمت للاعتراف "بإسرائيل".
استعادة الدور والوظيفة والمكانة للمنظمة، كأداة كفاحية للتحرير والعودة وكتعبير قانوني وتمثيلي وحيد وموحد للشعب الفلسطيني، لا يستوي دون العودة لميثاقها الوطني، الذي ألغي على يد جهابذة التفاوض والاعتراف من قبل السلطة الفلسطينية. من شأن ذلك أن يستعيد الثقة بالمنظمة؛ بإعادة تفعيل وبناء أوضاعها وهياكلها ودوائرها عبر الانتخابات والتجديد والدمقرطة لبنيانها، لتشكل الحاضنة الكفاحية والشعبية لجبهة المقاومة الوطنية الشاملة للشعب الفلسطيني.
ومن شأن إطلاق وبناء جبهة المقاومة الوطنية، أن تستنهض الحالة الشعبية الفلسطينية والعربية وتعيد الاعتبار للبعد التحرري والأممي لنضال شعبنا، كقضية تحرر وطني ضد نظام عنصري استيطاني؛ أدار الظهر للشرعية الدولية ولكافة قرارات الأمم المتحدة التي تعترف بحقوق شعبنا الثابتة، في دولة مستقلة وقدس عاصمة وعودة وتقرير مصير.
بناء وإطلاق جبهة مقاومة إستراتيجية لتحرير فلسطين؛ من النهر إلى البحر، كهدف استراتيجي؛ يحترم ويوائم بين الخصوصيات، وبما لا ينتهك الاستراتيجي في تحرير فلسطين التاريخية؛ من النهر إلى البحر. إن هذه المهمة الوطنية العظيمة؛ لأي حوار ووحدة وطنية حقيقية؛ يتطلب توفر الإرادة الوطنية الجامعة والقرار المقاوم الذي يراهن على إمكانيات شعبنا وأمتنا، رغم أي اختلال مؤقت في موازين القوى القائمة محليًا ودوليًا.
إن جبهة مقاومة تحشد وتقيم التحالفات مع محور المقاومة العربي والإقليمي والأممي، والذي يضم دول وقوى وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني ومناصرين أمميين ولجان مقاطعة، كفيل بإعادة بناء التحالفات لمعسكر الأصدقاء ولمواجهة معسكر الأعداء، الذي يعمل على تصفية قضيتنا وحقوق شعبنا ويسيد المشروع الصهيوني على مقدرات ومستقبل شعوبنا العربية والإسلامية.
تجربة بناء وانتصارات الجبهات الوطنية في العالم؛ من فيتنام إلى كوبا والجزائر وغيرها، هي الطريق الأسلم لتوحيد وتنظيم طاقات الشعب في مرحلة التحرر الوطني؛ شريطة توفر الخط السياسي السليم لهذه الجبهة الوطنية العريضة والقطع مع سياسة اللعم والتلعثم. إن توحيد طاقات الشعب؛ يشكل الحاضنة والحماية للقرار الوطني ولجبهة المقاومة واستراتيجيتها.
تجارب شعبنا والثورات التي انتصرت؛ أكدت أهمية تحديد طبيعة المرحلة وأشكال النضال المناسبة، ولعل طبيعة عدونا الكولنيالي الاستيطاني العنصري؛ يعلي شكل الكفاح المسلح، كشكل رئيسي للمقاومة، باعتبار التناقض الرئيسي مع هذا الاحتلال الاستيطاني، الذي التهم وهود الأرض؛ زكى هذا الشكل الذي يفهمه العدو، بعدما فشلت كل محاولات التسوية معه، بل أكد حقائق الصراع أن صراعنا مع هذا العدو هو صراع وجود لا تحله تسويات ومفاوضات عقيمة.
جبهة المقاومة وحاضنة شعبنا الذي برهن بصموده وتضحياته وهباته وانتفاضاته حتى في ظل أوسلو؛ يبعث على الأمل والثقة باستعدادات شعبنا الكفاحية وبامتلاكه مخزون ثوري؛ إذا ما توفرت له القيادة المؤتمنة على حقوقه، وما صمود شعبنا في القدس و ٤٨ وغزة ومواقع اللجوء والمهاجر وما يمثله ويسطره الأسرى يوميًا؛ من جبهة مواجهة مع السجان بإرادتهم وأمعائهم؛ يثبت أن هذا الشعب لن ينكسر ولن يطوي راياته الوطنية ويرفض الاستسلام والخنوع. إن تحويل مشروع الاحتلال لمشروع خاسر ومكلف؛ من شأنه تقريب ساعة النصر والتحرير..
مستويات وأشكال المقاومة الشاملة:
المستوى الأول والرئيسي (الكفاح المسلح الشكل الرئيسي للنضال التحرري الفلسطيني). إن طبيعة التناقض التناحري مع الاحتلال ورفضه لأي حل يفضي لدولة مستقلة؛ يفرض اعتماد شكل النضال الرئيسي وهو الكفاح المسلح ضد العدو ومستوطناته ومستوطنية والتصدي لجرائمه اليومية، بحماية الأرض والمقاومين وتكبيده الخسائر البشرية والاقتصادية على كافة الأصعدة، لجعل احتلال مكلف، وليس احتلال خمسة نجوم. وبناء الاقتصاد المقاوم والتحالفات التي توسع دائرة معسكر الاصدقاء والمقاومين، وهذا يتطلب تشكيل قيادة وغرفة عمليات مشتركة وبناء للقوى البشرية والتسليحية واللوجستية التي تكفل انتصار لاستراتيجية المواجهة الشاملة، وبما يوجع العدو ويدفع مستوطنين للرحيل من بلادنا.
المستوى الثاني للمقاومة (المقاومة السلمية الشعبية)، بقيادة مقاومة شعبية وتنسيق في كافة ساحات الوطن، بحيث يتناغم ويتكامل مع الأشكال للمقاومة الأخرى والرئيسي منها؛ يتمثل بمواجهة شعبية وسلمية للاستيطان والمستوطنين وحماية الأرض والكروم والأشجار والقرى والحماية للممتلكات والتصدي للتجريف والهدم للبيوت وسرقة المياه وحماية المقاومين وتصفية وعزل العملاء شعبيًا. والعمل على إشاعة قيم وثقافة المقاومة وتعزيز السلم الأهلي والاجتماعي.
المستوى الثالث (المستوى التضامني)؛ القانوني والحقوقي والدبلوماسي والإعلامي وتعزيز دور لجان المقاطعة BDS وملاحقة العدو ومحاكمة مجرميه على جرائمه، وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي وإبراز المحتوى والخطاب الفلسطيني التحرري، لمناصرة شعبنا وحقوقه واستعادة حركة التضامن العالم لنزع الشرعية الأخلاقية والقانونية عن العدو وتعرية ممارساته.
إن من شأن بناء جبهة المقاومة الشاملة ضد العدو واحتلاله وجرائمه؛ استعادة الثقة بالمشروع الوطني والعودة للينابيع وزمن الثورة الجميل،
واستعادة منظمة التحرير المختطفة إلى خطها الوطني وإلى دورها ووظيفتها التحررية، كأداة كفاحية لشعبنا. وهذه الجبهة ستخلق وتراكم مفاعيل وطنية وقيمية ونضالية لاجتثاث موبقات وثقافة دايتون وكل مظاهر الفساد والهبوط الوطني، الذي ينخر بالجسد والوعي الفلسطيني؛ نتيجة لمآلات أوسلو ووكلائه وعملاء الاحتلال الذين تربعوا على قيادة السلطة وكتف الشعب معًا.
قرع جدران الخزان؛ يحتاج لزنود كل القابضين على جمر القضية.