Menu

اليسار وعمليات التغيير في أمريكا اللاتينية

اسحق أبو الوليد

نشر هذا المقال في العدد 33 من مجلة الهدف الرقمية

فوز مرشح القوى الديموقراطية واليسارية بيذرو كاستيوو في انتخابات البيرو البلد الذي يعد معقل اليمين الرجعي الفاشي، وفوز سيومارا كاسترو زوجة الرئيس السابق سيلاييا في انتخابات الرئاسة في هندوراس التي تضم أحد أهم القواعد الأمريكية في أمريكا الوسطى، ومن ثم نجاح غابرييل بوريك اليساري في الانتخابات الرئاسية في شيلي يفتح الطريق من جديد، أمام قوى التغيير والتقدم والاستقلال عن الولايات المتحدة ويخفف من الحصار المفروض على دول في القارة، كما يؤشر إلى فشل الولايات المتحدة في الحفاظ على عملائها في السلطة وانحسار نفوذها المباشر في القارة كما في مناطق أخرى من العالم. البعض يقرأ هذه الانتصارات، انتصارات اليسار، بشكل غير علمي ويبالغ في تقديره للمدى الذي يمكن أن تصل إليه في تغيير البنية القديمة للنظام السابق ويراهن عليها في إنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية، وآخرين يعتبرون ما يحدث في القارة اللاتينية تحولات تقودها قوى ديموقراطية ثورية قابله للتطور وتحقيق السيادة والاستقلال، وفي نفس الوقت تحمل بذور وعوامل التراجع والانتكاس في المستقبل، ليس فقط بسبب منشأها الطبقي بل وبسبب طموحاتها الطبقية البرجوازية، مما يرفع من مدى استعدادها للمساومة مع "خصوم وأعداء الأمس "، تحت شعار التعايش الوطني والسلم الاجتماعي والتبادل الديموقراطي السلمي للسلطة. 

من هنا، وفي الواقع لا يمكن الحديث عن يسار واحد بمواصفات مشتركة لا في أمريكا اللاتينية ولا في أي منطقه من العالم، بسبب تنوع الشرائح والطبقات التي نشأ فيها ويمثل مصالحها، مما يؤدي إلى اختلافات بل إلى تناقضات سياسية وأيديولوجية بين مكوناته التنظيمية تقود بعضها للتحالف مع قوى يمينية على حساب برامجه المعلنة. يلاحظ هذا في المجتمعات الرأسمالية المتطورة التي تتراجع فيها حدة الصراع الطبقي بسبب تحقيقها مستوى معيشي عالي ومريح فيه شيء من العدالة الاجتماعية، على عكس ما هو قائم في المجتمعات التي هي في مرحلة التطور والنمو والتي تجري فيها التحولات الاجتماعية والاقتصادية ببطيء، وتزداد الهوة بين الفقراء والأغنياء وتتصاعد النضالات بهدف التحرر والإفلات من التبعية ومن وقبضة الاحتكارات الرأسمالية، التي تنهب خيرات هذه الشعوب وتضاعف عدد الفقراء والمحتاجين، مما يزيد من تراكم عوامل النهوض الثوري التي تستطيع تحطم العقبات التاريخية، التي يقيمها النظام الرأسمالي العالمي وأعوانه في الداخل ويفتح الطريق لعملية تغيير معقدة تتصدرها الأحزاب الديموقراطية الثورية واليسارية الإصلاحية التي تمثل البرجوازية الصغيرة والمتوسطة المعادية في الجوهر للشيوعية، تجد أمامها الأحزاب الشيوعية نفسها "مضطرة" إلى دعمها وربما مشاركتها الحكم، رغم معرفتها وتقديرها أن قرارها هذا محفوف بالمخاطر المستقبلية. 

دول جنوب القارة الأمريكية، والتي تُعرف أيضا بأمريكا اللاتينية، شهدت جميعها وبدون استثناء انقلابات عسكريه، منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي، بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي نُصًبت من خلالها ديكتاتوريات دموية فاشية وقمعية، بهدف وقف عملية النهوض الوطني الثوري وكبح جماح تطور العملية السياسية التي أحدثتها الحركات الوطنية وأحزاب وقوى كانت تعتبرها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في فترة ما سمي بالحرب الباردة "جسورا" للتمدد السوفييتي، وقد ازدادت وتيرة "القلق" الأمريكي من نضالات هذه القوى بعد نجاح الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو، وتحويل كوبا إلى متراس متقدم في أهم المناطق الاستراتيجية، التي تشكل تهديد مباشر على ما تسميه الولايات المتحدة "بالأمن القومي والمصالح الحيوية "في عقر دارها، أمريكا اللاتينية، التي تعتبرها أيضا "حديقتها الخلفية". في المقابل، ورغم القمع والاضطهاد والملاحقات التي كلفت شعوب هذه الدول عشرات آلاف الضحايا، تم التصدي لهذه الديكتاتوريات بمقاومة شعبية شاملة بما فيها المقاومة المسلحة، دون أن تستطيع، لأسباب موضوعية وفي بعض الأحيان ذاتية، أن تحقق أهدافها التي شملت، بالإضافة للإطاحة بالديكتاتوريات، إنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية بآفاقها الاشتراكية. وقد أطلقت الإمبريالية الأمريكية يد تلك الأنظمة لقمع وإبادة الحركات الثورية الجماهيرية وقياداتها، فمنهم من تم تصفيتهم والبعض شرد خارج البلاد وتم الزج بآلاف في السجون بالإضافة لمئات المفقودين والجرحى، وسادت حاله من اليأس والتشرذم والإحباط امتدت لعقود من الزمن، لازمها تصاعد وتعمق أزمة الأنظمة الديكتاتورية لعدم استطاعتها تلبية الحاجات الشعبية وابتعادها المبكر عن كافة الشعارات التضليلية التي رفعتها كي تبرر أسباب وجودها، مما أدى إلى نضوج بطيء ومتصاعد للظروف الموضوعية لعملية التغيير، ونمت في أحشاء تلك المرحلة الظلامية البذور الثورية التي "زرعتها" ثورات القرن الماضي، التي ذبحت ببطش وقسوة لا مثيل لها. وقد تصادف هذا التراكم لعوامل الانفجار الاجتماعي وشروط الثورة في امريكا اللاتينية مع سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه وانحلال ما كان يعرف بالمنظومة الاشتراكية في بداية العشرية الأخيرة من القرن العشرين. وفي الوقت الدي كانت تنهار فيه منظومات ودول، حدث أول تمرد عسكري ضد نظام عميل للإمبريالية، ففي 4 شباط 1992، في فنزويلا بقيادة المقدم في سلاح الجو هوغو شافيز، للإطاحة بالنظام اليميني التابع للولايات المتحدة، هذا التمرد رغم أنه فشل عسكريا بالإطاحة بالنظام إلا أنه كما أثبتت الأحداث التاريخية، نجح في إحداث تمرد على الواقع وأدى إلى استفاقة للوعي الوطني ـ القومي والثوري ليس فقط في فنزويلا، بل في كل أنحاء القارة اللاتينية، من المكسيك في الشمال إلى بثاغونيا في أقصى الجنوب، لعب فيه القائد الفذ هوغو شافيز دورا محوريا بشخصية الجذابة ووعيه واستقامته واصراره وثوريته وانحيازه التام إلى جانب العمال والفلاحين وكافة المضطهدين ودفاعه عن القضايا العادلة في كل مكان وخاصة في فلسطين.

بعد فشل التمرد واستسلام شافيز ورفاقه، تم زجهم في السجون لأكثر من عامين، قال عنها شافيز بأنها كانت فتره مهمه جدا في حياته من أجل "القراءة والتأمل ومراجعة التجربة ووضع الخطط التي تضمن النجاح". وقد خرج من السجن ولديه وضوح في الهدف: الوصول إلى الحكم واستلام السلطة، لأنها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأفكار والخطط والبرامج، وكان لديه الاستعداد أن يخوض كافة أشكال النضال بما فيه العسكري مرة أخرى إن تطلب الأمر ذلك، وقد تمكن من تحقيق هذا الهدف بعد أقل من 5 سنوات على خروجه من السجن. نظرت حكومة الولايات المتحدة "بقلق شديد" لنجاح شافيز في الانتخابات الرئاسية في كانون أول عام 1998 واعتبرته "تهديدا لأمنها ومصالحها في فنزويلا والقارة "وعملت مع وكلائها وعملائها في القاره على محاصرته ومحاصرة الثورة البوليفارية، ولكن النتيجة جاءت عكسيه، ففي غضون أقل من 5 سنوات تهاوت الأنظمة اليمينية الرجعية في معظم دول القارة، وحلت مكانها أنظمة ديموقراطية تقدمية (يسارية) ورفعت شعار الاستقلال الناجز والسيادة الكاملة ورفض التبعية للولايات المتحدة، وبناء اقتصاد انتاجي بديل يضمن النمو والتطور، أي التحرر من الاقتصاد الخدماتي ـ الاستهلاكي والكمبرادوري الريعي، ويستطيع تحقيق التكامل الحقيقي بين كل القطاعات الاقتصادية ويوفر فرص العمل والحياة الكريمة للشعب، واللافت أن كافة هذه الأنظمة الجديدة أخذت نظام الحكم في فنزويلا، كنموذج يحتذى بسبب الانجازات التي حققها في فتره وجيزة، حيث غدت فنزويلا المنافس الحقيقي للولايات المتحدة على النفوذ في القاره، مما دفع حكومات الولايات المتحدة، وخاصة منذ عهد الرئيس باراك أوباما إلى العمل الجاد للإطاحة بالرئيس شافيز وتخريب وتدمير الثورة البوليفارية للحد من نفوذها في القارة، دون أن تستبعد أي وسيله لتحقيق هذا الهدف.

رحل المناضل القائد شافيز عن هذا العالم بشكل مفاجئ في 5 آذار 2012 بعد أن استفحل في جسده سرطان شرس لم يمهله طويلا، مما يزيد من الاعتقاد إنه اغتيل بالسرطان، قبل أن يتمكن من إنجاز برنامجه وخطته الثورية كما هو كان يرتئيها، رغم ذلك ليس من السهل محو أو تغييب صورة هذا القائد من ذهن الفقراء والقوى الثورية وخاصة الماركسية، رغم الانتكاسات التي تشهدها عملية التغيير الثورية في وطنه ـ فنزولا.

إن ما يميز أمريكا اللاتينية عن غيرها من المناطق، هو أن شعوبها تخوض نضالا سياسيا واقتصادينا وفكريا أصيلا ولديها تراث ومخزون نضالي يشكل وقود يتفاعل مع الحاضر، وهي متحررة اجتماعا لا تشهد أي انقسامات دينية أو اثنية أو قبلية، مما يجعلها استثنائية في هذا المجال، وتتمتع بمزايا ستجعلها ولفتره طويله تتصدر العملية الثورية العالمية، الشيء الذي تعلمه الولايات المتحدة ويزيد من قلقها ويفرض عليها الانكفاء نحو القاره علها تستطيع تأخير موجات أخرى من التمرد على سياساتها ونفوذها، نعم هي تمردات إصلاحية ولكنها ستشكل خطوة إلى الأمام، ستليها موجات أكثر جذريه، كما حصل في شيلي، ومن المتوقع أن تليها البرازيل وكولومبيا، وهذا يملي على القوى التي بوصلتها الاشتراكية العلمية، أن تعد برامجها وتشحذ قواها كي تكون البديل الثوري في "التطور التاريخي الحلزوني"، لتحل مسألة فشل "الاصلاحيين الاشتراكيين" في تحقيق أمال الجماهير، في إقامة "الاشتراكية" فهم لا يفشلون فقط في إقامتها، بل يشوهوا صورتها ويلوثوا مبادئها ويجعلون منها فكرة رومانسية غير قابله للتحقيق، مما يؤكد أن الإصلاحية في نهاية المطاف هي برجوازية معادية للاشتراكية العلمية يكتشف البعض طبيعتها بعد فوات الأوان.