Menu

خيارات محمود عباس وتزوير الوعي والتاريخ

اسحق أبو الوليد

قال محمود عباس في كلمته التي افتتح بها مجلسه أن "اتفاق أوسلو كان مرحليا ولم نقدم من خلاله أي تنازل عن ثوابتنا الوطنية"! وهل من تزوير للتاريخ والوعي أكثر من هذا؟ وإذا لم يكن الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني في فلسطين، المسمى دولة "إسرائيل" تنازلا عن الثوابت، بل تنازلا عن مُثبت الثوابت، ماذا يكون؟ لا أيها "الرئيس" لن يقبل شعبنا تزويرك لوعيه ولتاريخه، وهذا الهراء لا مكان له في التاريخ الحقيقي لشعبنا وفي وعيه الفردي والجمعي. إن من تابع كلمة محمود عباس التي ألقاها في اجتماع مجلسه المركزي والتي اعتمدت كوثيقة من وثائقه، لم يتفاجأ لا بأسلوبه المكرر والممل ولا بمحتوى كلمته التي كالعادة، فيها من "الأعشاب" ما يكفي لمدمني عادة الاجترار السياسي، لتغليف ما كان يريد توصيله لأسياده في واشنطن وتل أبيب وباقي أطراف ما يسمى بالشرعية الدولية، حيث أعاد تأكيده على إدانته للإرهاب كأحد مسلمات سياسته وسلوك إدارته في المقاطعة، وعلى ثبات "الاستراتيجية" التي ستتبعها "الشرعية" الجديدة، بعدم قبول "وحدة وطنية" أو "مصالحة" مع حركة حماس إلا على أساس القبول بقرارات "الرباعية"، حيث وبجرة قلم أغلق أبواب "الحوار الوطني" الذي هو أصلا شكلي واستعمالي، يمارس لخدمة أغراض وتكتيكات تحددها المرحلة التي يجري فيها.

واللافت أيضا أنه طرح الخيارات "الممكنة" للحل السياسي النهائي، التي هي محل خلاف استراتيجي فلسطينا، ولا يتضمن أي منها، بأي حال من الأحوال، المساس بوجود "إسرائيل"، أي يقبل بالتحرير الكامل لوطن الفلسطينيين التي هي فلسطين التاريخية. نعم إنها خيارات جديرة بالنقاش من كافة المثقفين، وخاصة الملتزمين بمبدأ الثقافة المشتبكة والمقاتلة>

الخيار الأول: خيار حل "الدولتين"، أو مولد الأوهام السياسية، الذي جاء من رحم ما سمي "البرنامج المرحلي" المقر من المجلس الوطني عام 1974 والذي قاد تدريجيا إلى المشاركة في مؤتمر مدريد "للسلام"، وإلى المباحثات في أوسلو التي توصل فيها العدو الصهيوني إلى صفقه مع المفاوضين الفلسطينيين، سميت باتفاقيات أوسلو "منحت الطبقة البرجوازية الفلسطينية، امتيازات اقتصادية وسياسية وإدارية في إطار سلطة حكم ذاتي على جزء لا يتعدى مساحته 35% من الأراضي المحتلة في حرب 1967 العدوانية، مقابل قبول الوفد المفاوض عن تخلي منظمة التحرير عن أهم ثوابت برنامجها الوطني، أي "المطالبة بتحرير كل فلسطين" واعترافها بشرعية وجود إسرائيل على أكثر من 78% من أرض فلسطين التاريخية. والأنكى أنه رغم تنازل الوفد المفاوض وقيادته السياسية عن كامل الحقوق التاريخية واقترافهم الخيانة الوطنية للأرض والشعب والقضية، نجدهم فشلوا في تثبيت الهدف النهائي للتسوية المتمثل "بإقامة الدولة المستقلة"، لأن العدو الصهيوني في الحقيقة لم يفاوض الفلسطينيين "كند" له ثقله وهيبته واستقلاليته، بل تعامل طوال فترة المفاوضات، وما زال، مع المسألة الفلسطينية كمسألة أمنية "إسرائيلية"، فرض عليها الحل الذي هو يريده ويخدم مصالحه، وأبقى على شكل وجوهر الحل النهائي معلق على نتائج مفاوضات الحل الدائم "الذي سيؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن 242 و 338"، كما جاء في القسم "ب" من البند الأول لهذه الاتفاقية، أي تم استبعاد قيام أي شكل من أشكال الدولة مسبقا، وبقبول الطرف الفلسطيني "إسرائيل" كطرف مقرر شبه وحيد استغلت إلى أقصى الحدود هذا الاتفاق، الذي ثبت من الوضع غير الشرعي والمشكوك به إلى "الشرعية" الواضحة من أصحاب الحق الأصليين والتاريخيين، لتنمية وتقوية عوامل اجهاض النضال الفلسطيني ومنع قيام دوله فلسطينية، مهما كان شكلها، بما ينسجم ليس فقط مع الاستراتيجية الصهيونية، بل مع استراتيجية وأهداف كافة الحكومات الإمبريالية والرجعية العربية الذين أقاموا هذا الكيان ويوفروا له كل مقومات الحياه والتفوق الاقتصادي والعسكري، مما وضع مسألة محاولات الحصول على "الدولة"، ليس موضوع " ذكاء وقدرات" المفاوض الفلسطيني، بقدر على ما يعتمد ميزان القوى، الذي إن لم يتغير لصالح حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية عربيا وإقليميا ودوليا، لا يمكن هزيمة المشروع الصهيوني، ليس فقط في فلسطين بل في الوطن العربي، وهذا يتطلب أولا إسقاط النهج الفلسطيني المنخرط والمتحالف مع معسكر الأعداء، والخروج التام من التسوية وأوهامها والبناء عليه نضاليا، لأن استمرار انخراط طرف فلسطيني مهما كان حجمه وصفته التمثيلية في التسوية التصفية باسم الشرعية، يطيل أمد الاستعمار والاحتلال ويساهم في اجهاض أي انجازات تحققها حركة المقاومة الوطنية ويبعدها أكثر عن يوم التحرير.

الخيار الثاني: العودة لقرار التقسيم الذي يمنح الصهاينة 56%، أي أكثر بكثير مما حصلوا عليه في صفقة أوسلو، هذا الخيار عدا عن أنه لم يطبق في حينه، عندما كانت موازين القوى أفضل بكثير عما هي عليه الآن، هو مرفوض بالمطلق "إسرائيليا"، لأنه لا يعقل أن يقبل العدو دوله فلسطينية على 44% من فلسطين، كان قد رفضها وقوض عوامل قيامها على 22% منها وهذا ما يعلمه عباس وغيره بشكل جيد. إذا، لماذا ألقى بهذا الخيار؟

إنه بلا أدنى شك خيار اعتراضي، وفي نفس الوقت لا عفوي او صدفي، الهدف منه ليس إرباك العدو أو إشغاله، إنه مادة للهو، وللعب "في الوقت الضائع" من قبل بعض المشاركين في مجلسه الموقر هواة التحليل والتبرير. إنه كمن يلقي بطابه أمام قط ليلهوا بها، ففي كل مرة يلمس القط الطابة، تبتعد عنه أكثر.

إن العدو الذي يرفض ويمنع قيام "دوله فلسطينية" على مساحة ضيقة جدا ومضبوطة من كافة النواحي، لن يقبل بقيامها على مساحة أوسع وأشمل بحجة أنها ستشكل "تهديدا" وجوديا أكثر له ولبعض حلفائه المحليين.

الخيار الثالث: الذي طرحه عباس رسميا، وعلى ما يبدو تداوله مع أصدقائه الصهاينة الذين لا يكف عن لقائهم وإقامة الولائم معهم، يؤشر إلى "ترسخ قناعته" أن بعض شروط إقامة "الدولة" العتيدة التي كانت متوفرة في الماضي القريب قد انتهت، وأنها لن تقوم لا الآن ولا في المستقبل القريب، مما سيفرض استكمال الدمج الجغرافي الموضوعي، الجاري منذ زمن، للجغرافيا الفلسطينية، وهذا يمنح الصهيونية فرصة الاحتفاظ بالأرض كاملة، ويشرع الاستيطان الاستعماري في أي مكان من فلسطين، ويصبح بمثابة الخيار الوحيد الذي يحقق الحلم الصهيوني "التوراتي" كاملا دون عقبات بموافقه فلسطينية رسمية، وربما بتواطؤ شعبي أيضا ان لم يتم فضح هذا الخيار الآن وبدون تردد. من هنا يجب أن لا يمر طرح هذا الخيار مر الكرام، وعلينا من الآن إبراز مخاطره التاريخية والمستقبلية، ليس فقط على حق العودة لشعبنا إلى دياره التي هجر منها، بل على ارثتا التاريخي في فلسطين، وعلى روايتنا التاريخية التي يجري تزويرها من قبل "النخبة المفكرة والمثقفة" الصهيونية، والأخطر ترهل واضعاف مقاومتنا ومحاولات العدو لصهينة "الوعي" الشعبي الفلسطيني والعربي، الآخذ وبكل أسف في التمدد. إننا بلا شك، من أجل تحقيق هذا الهدف النضالي النبيل نحن بحاجه لطلائع فكرية وعلمية وبحثية عربي،ة تحتضن الخيار النضالي الشامل، وخاصة العسكري القومي العربي والكفاح المسلح الفلسطيني، رأس الصدام مع المشروع الصهيوني، في فلسطين والوطن العربي، من أجل فرض الحل العربي الفلسطيني الثوري بتحرير كل فلسطين وإنهاء الدولة الصهيونية القائمة فيها والقضاء على كل أشكال الفكر الصهيوني العنصري الفاشي في الوطن العربي، وتنقية تاريخنا من أضاليلها وتزيفاتها، وسيبقى الصراع قائم ومفتوح بين الحلين، أي الحل الممكن والحل التاريخي، وما علينا إلا مراكمة عوامل انتصار الحل التاريخي، مما سيسمح بإعادة الحقوق كامله لأصحابها وإحياء التاريخ وإعادته إلى مجراه الصحيح.