Menu

إسرائيل: يمينٌ أيديولوجيٌّ عنصريٌّ مهيمنٌ ومعارضةٌ بلا سياسة...!

محمد صوان

نٌشر في العدد الـ34 من مجلة الهدف الرقمية

كاتبٌ سياسيٌّ فلسطينيّ/ تركيا 
أسهمت التحوّلاتُ الاقتصاديّةُ والاجتماعيّةُ التي دخلت على "المجتمع" الإسرائيلي في العقدين الأخيرين، المترافقة مع تحوّلاتٍ في المجتمع اليهودي نحو التديّن الأصولي والقومي المتعصّب في ظهور توتّرٍ بين اتجاهين: 
الأوّل: يتبنّى ويرعى الانتماء الديني الأصولي، وهو اتجاهٌ يسعى لتحويل "إسرائيل" إلى "دولةٍ يهوديّةٍ" تسيّرها الشريعةُ التوراتيّة، وتستثني من حقوق المواطنة كلّ من هم من غير اليهود.. 
الثاني: يتمسّك بالعلمانيّة كسمةٍ شكلانيّةٍ "لهويّة الدولة" دون المساس بالبُنى المؤسِّسة لعدم المساواة "الطبقيّة والإثنيّة والقوميّة".. 
ولا يجد التياران غضاضةً في التعامل مع الفلسطينيين بمنطقٍ استعلائيٍّ كولونياليٍّ عنصريّ.
مأزقُ "إسرائيل" التاريخيّ   
في ظلّ هذا الاستقطاب الحاد يجد الفلسطينيّون – أصحاب البلاد الأصليّين – أنفسهم خارج حسابات الاتجاهين الأكبر، وكونها حسابات يحدوها المنطق الاستعماريّ الاستيطانيّ بخصوصيّته الصهيونيّة، فكلٌّ من الاتجاهين يحرص على تهميش الحضور السياسي والاجتماعي والثقافي الفلسطيني، وتحييد تأثيراته داخل فلسطين التاريخيّة – وفي المجتمع الإسرائيلي – وهو ما سعى "قانون القوميّة اليهودي" لتكريسه.. كما يجد كلٌّ من الاتجاهين ما يسنده راهنًا، في التحوّلات الجارية على الصعيدين: 
الدولي: تزايد اتجاهات الشعبويّة المحافظة والقوميّة اليمينيّة. 
العربي: متمثّلًا بتوجهات النظام الرسمي العربي نحو التطبيع مع إسرائيل إرضاءً لداعمها الاستراتيجي "الولايات المتّحدة الأمريكيّة ".
إنّ التعبيرات التنظيميّة البنيويّة للمكوّنات السياسيّة الهوياتيّة في "إسرائيل" المترافقة مع الانقسام العموديّ بين الاتجاه المتدين الأصولي، والعلماني اليميني، واتّساع حدّة التناقضات الطبقيّة في المجتمع تشكّل أحدَ أهمِّ عناصر المأزق الإسرائيلي الراهن.. إلا أنّه من الحكمة عدم المبالغة في تأثير هذا العنصر في رسم توجّهات النخبة السياسية الإسرائيلية، ومن الحكمة أيضًا عدم تجاهله في رسم الاستراتيجيّة السياسية الفلسطينية تجاه المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته، بما في ذلك الكنيست. 
ضمن هذا الفهم لسمات النظام الصهيوني الديني الذي تهيمن عليه أيديولوجيّةٌ شموليّةٌ استثنائيّة، يمكن تحديد اتجاه الفعل الفلسطيني السياسي والاجتماعي والثقافي داخل فلسطين التاريخية، وهو فهم ينطلق من "إدراك أن السياسة الكولونيالية الاستيطانية التي اعتمدتها الحركة الصهيونية منذ قرنٍ ويزيد، وواصلتها "إسرائيل" منذ نكبة فلسطين عام 1948، واستمرت في تبنيها منذ هزيمة حزيران عام 1967، قد فشلت بتحقيق هدفها المتمثل في تطهير أرض فلسطين من سكانها الأصليين، واليوم وبعد مرور أكثر من عشرة عقود على هذا المشروع الاستعماري، لا يزال ما لا يقل عن نصف الشعب الفلسطيني يقيم على أرض وطنه التاريخي، كما أن عدد الفلسطينيين لا يقل عن عدد الإسرائيليين. 
لقد فشل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في المهمة التي أنجزها الاستعمار الاستيطاني في "أمريكا، كندا، استراليا" وغيرها.. وفي هذا السياق من واجبنا التمعّن في دلالات فشل المشروع الصهيوني بتصفية وجود الشعب الفلسطيني فوق أرض وطنه، والتمعّن أيضًا في فشله بإخماد حيوية الوطنيّة الفلسطينيّة لدى مكوّنات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخيّة وخارجها، والتمعّن كذلك في مأزق الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة المركّب، وتفكّك نظامها السياسي الوطني إلى مكوّنات جهويّة وفئويّة، بعد تهميش واختفاء مؤسّساتها الوطنية الجامعة، فكل ذلك لم يُفقد الوطنية الفلسطينية صلابتها ولم يضعف تمسك الشعب الفلسطيني بروايته التاريخية المتجددة الفصول.
بالرغم مما دخل على النظام الرسمي العربي من توجّهاتٍ تطبيعية، ومن تبهيتٍ لحقوق شعب فلسطين وتزييفٍ لروايته ونضاله، فإنّ الشعوب العربيّة لم تشارك نخبها السياسيّة الحاكمة هذا التحوّل، إنّما هي ما زالت على انحيازها لمركزية وعدالة قضية الشعب الفلسطيني، ومناهضتها "لإسرائيل" الاستعمارية، وهناك ما يدعم الاعتقاد بأنّ ثمّة تحوّلات مهمّة في الرأي العام العالمي – خارج المؤسسات والأجهزة الرسميّة، بما في ذلك في أوروبا والولايات المتّحدة – لجهة إدراك ما تمثله "إسرائيل" من ممارساتٍ وسياساتٍ عنصريةٍ وعدوانيةٍ لكل ما هو تقدمي و ديمقراطي، فضلًا عن دعمها لكلّ ما هو عنصري ومتخلّف في العالم.
نحو رؤيةٍ استراتيجيّةٍ فلسطينيّةٍ جديدة 
إنّ إدراكنا لكلّ ما يجري أمرٌ ضروريٌّ لمنع تحويل القضيّة الفلسطينيّة إلى مسائلَ جزئيّة، يصبح كلٌّ منها موضوعَنا الشاغل، ولكي لا نقع في فخ ومنطق الرأسمالية الليبرالية المتوحشة التي تختزل المجتمعات إلى مجرد أفراد وسوق "سلع مشيّئة" يحركها دافع الربح الخاص أوّلًا وعاشرًا. 
الركيزةُ الأساسيةُ التي ينبغي أن توجّه الفعل الفلسطيني في مواجهة النظام السياسي الإسرائيلي الداخلي ومؤسساته هو السعي الجاد لإرهاقه وتفكيكه بالتدريج على المدى المتوسط والطويل، وتقويض هيمنة الصهيونية على المجتمع الإسرائيلي، وتعميق التناقضات داخله وتوسيع دائرة التأييد للشعب الفلسطيني وحقه في التحرّر والعودة وتقرير المصير فوق ترابه الوطني. 
لعلّ المهمّة الفلسطينيّة الأولى هي توحيد الحركة الوطنيّة عبرَ بناء مؤسساتٍ وطنيّةٍ جامعةٍ على أسسٍ ديمقراطيّةٍ تنسحب على المستويات السياسية والقطاعية والمهنية والنقابية والثقافية من أجل تمثيل حقوق ومصالح الكل الفلسطيني. 
إنّ غياب هذه المؤسّسات التمثيليّة الجامعة كان سبب الإرباك والانقسام إزاء الاعتبارات التي تحكّمت في سلوك القائمة المشتركة في انتخابات الكنيست الأخيرة، وفي رؤيتها إلى حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية، مع الأخذ بالاعتبار غياب الرابط بين هذه الحقوق وحقوق الكل الفلسطيني، والحقيقة أن التيه والارتباك والقلق الفلسطيني العام مصدره مشاهد انجرار النخب السياسية داخل فلسطين التاريخية وخارجها نحو منطق الاعتبارات الفئوية والجهوية خارج متن الكل الفلسطيني.. وعلى المشروع السياسي الجامع أن يناقش رؤيته لمستقبل اليهود المتخلصين من الإرهاب الصهيوني.. وأن يطرح حلًّا يناقض ما يطرحه المشروع الكولونيالي الاستيطاني من حيث القيم ورؤية المستقبل. 
 يمكن مناقشة مستقبل العلاقة بين الفلسطينيين واليهود المتحررين من الصهيونية، بما في ذلك الرؤية إلى دولةٍ ديمقراطيّةٍ واحدةٍ تعيد توحيد أرض فلسطين التاريخيّة، وتتصدّى للظلم التاريخي الذي سببّته لشعوب المنطقة. 
لا يمكن أن يتجاهل المشروع السياسي الفلسطيني الواقع الذي تشكّل على أرض فلسطين التاريخية جرّاء المواجهة اليوميّة مع قطعان المستوطنين، ومع سياسة التطهير العرقي... وهو واقعٌ يشتمل على سمتين بارزتين يصعب تجاهلهما: 
الأولى: ليس لجميع اليهود – مثلما كان للفرنسيين في الجزائر – بلد أم يعودون إليه، إذ إنّ نسبةً غيرَ قليلةٍ من هؤلاء يحملون هُويّةً إسرائيليّةً يهوديّة.
الثانية: فشل المشروع الصهيوني في إفراغ فلسطين من أهلها وشعبها الأصلي، على الرغم من العقود المديدة على هكذا مشروع... وعلى الرغم من استخدام الصهاينة أشكالًا متعدّدةً من العنف والإرهاب والقمع لدفع الشعب الفلسطيني إلى التخلّي عن هُويته وانتمائه وحقوقه وأرضه.
إنّ صياغة مشروع وطني نضالي جديد وبناءه طويل الأمد "الدولة الديمقراطية الواحدة" أو " الثنائية القومية " هو ما يتعيّن على مكوّنات الشعب الفلسطيني كلّها مناقشته بعمقٍ وحكمة، لا يعني التوقّف عن مواصلة النضال بأشكاله المتاحة التي تخدم وتوصل إلى الهدف وطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، بل يعني التشديد على ضرورة هذا النضال ووضوح أهدافه، وكشف جميع أشكال التزييف والطمس والتزوير للرواية الفلسطينيّة والتاريخ النضاليّ الطويل لشعبنا.