منذ غسان كنفاني ، وحتى شيرين أبو عاقلة، ظلّت الكلمة في سفر النّكبة والمقاومة باهظة الكلفة، بل يصل ثمنها في كثير من الأحيان إلى تقديم الرّوح وتشظي الجسد، كما لو أنّ كاتبها أو قائلها، يحمل حزاماً ناسفاً أو يحمل مدفعاً رشاشاً.
كان غسان صحفيا وأدبيا روائياً مرموقاً، حين فجّروا سيارته وحوّلوا جسده وجسد ابنة أخته الطفلة لميس أشلاءً متراميةً على أغصان الشجر في ضاحية الحازمية على أطراف بيروت قبل خمسين سنة.
وكانت شيرين مراسلةً صحفيةً مرموقةً، يصدح صوتها في بيوت ملايين العرب حين أطلقوا النّار عليها فأصابوها في مقتل بين خوذة رأسها وسترتها الواقية من الرّصاص، لتصعد روحها من أرض مخيم جنين إلى سماء القدس .
على ذلك النحو بدأت جرائم قتل الصحفيين الفلسطينيين، وإلى هنا وصلت إلى فصلها الأخير بعد خمسة عقود من ارتكاب أُولاها، لكن متن القصة الطويلة المريرة يفيض بأرواح ودماء الصحفيين وأدباء وفنانين فلسطينيين آخرين سوى غسان وشيرين، ممّن لم تستطع سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" إسكاتهم بغير قتلهم.
"إسرائيل" ما انفكت منذ إنشائها فرض الصّمت عبر وسائل قمعيةٍ أخرى، تعتقل الصحفيين والمثقفين كما تعتقل سواهم من الفلسطينيين الذين يخوضون في الكفاح ضد الاحتلال، تتّهمهم بالإرهاب وتحكم عليهم بالسجن سنين عددا، أو تفجّر مقرّات عملهم، على غرار ما فعلت في قصفها لمقر وسائل إعلام عالميّة، وقصفها المتكرّر لمباني تلفزيونات محليّة ومؤسسات صحفية في أماكن متفرقة من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة بحجّة أنها تحرّض على الإرهاب.
وليس تدمير مقرّات وسائل الإعلام إلّا بعضاً من السياق القريب زمنيّاً لاغتيال شيرين وإعدامها ميدانياً كما تقول شهادات من زاملوها في مهمتها الأخيرة، يجب أن يغيب الشهود إذاً عن مسرح الجريمة، وإلّا فلا خياراً أمام مرتكبها سوى تغييبهم بالقتل.
تلك هي الحكاية باختصار شديد وهي أن تكون محل نفيٍ وإنكار في المستوى السّياسي الرسمي "الإسرائيلي"، فإنّ تصريحات بعض وجوه الدّولة المحتلة ممّن لا يأبهون بارتداء الأقنعة أو بالتمويه على أيديولوجيتهم، لم تبق للسر مطرحا، عضو الكنيست المتطرّف إيتمار بن كفير حيّا الجيش "الإسرائيلي" على قتل شيرين أبو عاقلة، وهذا مخيم جنين الذي كانت هي أحد الشّهود على مذبحته قبل عشرين سنة، بات منذ أسابيع مهدّداً باقتحامٍ عسكريٍ واسع قد يؤدي إلى مذبحةٍ أخرى.
يُنقل عن غسان كنفاني قوله "لا تمت قبل أن تكون نداً"، وقد استطاعت شيرين أبو عاقلة، أن تنفّذ الوصيّة في حياتها كما في موتها، لا سيّما حين تكفّلت صورتها الأخيرة بتمريغ التمدّن المزعوم في وحل أفعاله، وعلى مرأى من عالمٍ لا يريد أن يرى.
تقرير: ماجد عبد الهادي
مرفق الفيديو