Menu

الجبهةُ الشعبيّة: فصيلٌ أم فكر؟

وليد عبد الرحيم

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

ذلك اليساريُّ الإيطاليّ، الكهلُ المناصرُ لكلّ أخطاءِ الفلسطينيّين قبلَ صواباتهم، قال لي منذُ أكثرَ من ربع قرنٍ إنّ أهميّة اليسار ليست في ميزانيّته أو عدد أعضائه ومؤيّديه، وإنّما في لُبِّ الفكرة ذاتها، كان ذلك في روما منتصف التسعينات، في ذلك الوقت الذي كانت أذرع الصهيونيّة تهاجمُ حسابات وأعضاء الجبهة الشعبيّة في مختلِف بنوك العالم، تلك الحسابات التي تُفتح بأسماء أشخاصٍ من خارج الملعب العلني تفاديًا لمفاعيل تهم الإرهاب الهادفة إلى نزع صفة حركة التحرّر عن الثورة الفلسطينيّة عمومًا وتكريس مصطلحٍ بديلٍ يسمّيها: "التنظيمات الإرهابيّة".

بعدها بأكثرَ من عام، زار" ماركو" دمشق سائحًا أوروبيًّا ليس إلا، بعد أن نبش معروضات سوق خان الخليليّ في القاهرة، بدوري استقبلته في دمشق وأحضرته إلى مخيّم اليرموك باعتباره سائحًا أوروبيًّا جاء ليطبع في ذاكرته الصور التي تصادفه أو تلك التي يبحثُ عنها لالتقاطها بناءً على ذاكرةٍ سابقةٍ رسختها كلٌّ من الصحف اليساريّة والإمبرياليّة الأوروبيّة عن اللاجئين ومساكنهم، وكذا حكايات الفلسطينيين الشفهيّة التي يسردُها فلسطينيّون قاطنون في القارة العجوز بطريقةٍ أكثرَ حريّةً ووضوحًا، وبمفردات المظلوميّة التي تبتعد غالبًا عن الخطب التي تسمعها آذان اللاجئين من أفواه القادة السياسيين المحترمين وغير المحترمين في مهرجانات المخيمات.

كان يدوّن مشاهداته على دفترٍ صغيرٍ فريدٍ في لون غلافه وشكله وحجمه، يستمع إلى نبض عيون أولئك المعلقة صورهم على الجدران، بعضها كان قد مضى عليه زمنٌ فقضم المطرُ أجزاءً من الملصقات، وتكفل الغبار بالباقي.

ماركو ما انفكَّ يسأل من هذا؟ وأين قتل؟ ومتى؟ وكيف؟

على خزّانِ الكهرباءِ الأصفر الواقف على شارع اليرموك عند التقاطع مع شارع المدارس كانت صورة كبيرة لرجل مسن بوجهٍ شاب، يستند إلى عكازه بوقار فريد من نوعه وملامح عبقرية، بادرني ماركو: وهذا أيضًا قام بعمليّةٍ فدائيّة؟!

أجبته: لا يا رجل، هذا جورج حبش

قال: القائد القومي اليميني الشهير، لقد خلته أكثرَ شبابًا ودون عكاز!

قلت: لا يا رجل، بل هو مناضلٌ يساريٌّ علمانيٌّ يقود الجبهة الشعبيّة، فلم تصفه بأنه يميني؟!

أجاب ماركو: بأنّه سمع ذلك مرارًا من فلسطينيين يساريين كان قد التقاهم في محافل "الاشتراكيّة الدولية" التي ينضمُ إلى ركبها حزب العمل "الإسرائيلي"، وأضاف: على العموم لا تنزعج من وصفي، فبالنسبة لي هذه ليست شتيمة، فأنا أحترمُ الرجل الذي قرأت عنه بعض المقالات كما أحترم عرفات أيضًا الذي أرى أن وطنيته المتسرعة أوقعته مؤخّرًا في شرك خبث اليهود الذين أعرفهم جيّدًا، فحتى يساريوهم يصبحون متدينين عنصريين عندما يتعلق الأمر بخرافات التوراة وبقاء الهيمنة.

أجبته: بأنّ هذه إحدى فلسفات وأفكار حبش والشعبية، فدوَّنها في دفتره كملاحظة ينبغي له التأكد منها أكثر!

كانت الجبهةُ الشعبيّةُ تُصدرُ عبرَ مؤسّسةِ الهدف مجلّة باللغة الإنكليزية"d.p"   تعني " فلسطين الديمقراطية"، وقد خُصصت لغير العرب على ما يبدو، فقرأ كل ما أتيح له من أعدادها وحمل بعضها معه لاحقًا إلى نابولي، طلب مني بعدها تأمين لقاء له مع الحكيم، حاولتُ لكن ذلك تعذر، فالتقى ذلك الرجل القوي الجذري، ذا الشاربين المميزين أبا علي مصطفى الذي أضحى شهيدًا بعدها  بسنواتٍ قليلة.

من أين أتى هذا الرجل بكل هذه الشجاعة وذاك الوقار؟

أجبته: من قوة الفكرة!

بعد قراءة مفرطة في موضوعيتها، خرج ماركو بنتيجة مفادها أن الجبهة الشعبية ليست فصيلاً ثورياً بقدر ما يمكن وصفها على أنها "فكرة"، وبذلك التقط ماركو الحلقة الأساسية المؤسسة للحالة الجبهوية، بدوري اعتمدتُها منهجياً، ومازلت...

بدأت" الشعبية" نظرياً ثم عملياً كفكرة مزجت بين الوطني- القومي كضرورة تاريخية ومستقبلية للتخلص من الأثر الرجعي للاستعمار والاحتلال وواقع التجزئة المريض، وبين النهج اليساري العلماني الذي أدرك بأن الصراع مع الصهيونية واحتلال عصاباتها لفلسطين التي يحاول الغرب والصهيونية ومعظم الأنظمة العربية محوها عن خارطة التاريخ والجغرافيا، سيكون صراعاً طويلاً وقاسٍياً قومياً وطبقياً، وهو لا يمكن أن يكون صراعاً دينياً، بل إن تحويل الصراع إلى شكل ومفهوم ديني هو مأرب صهيوني دائم، فهو يمسح العنوان القومي والوطني والإنساني والقانوني ويحول فلسطين وقضيتها إلى مجرد مبانٍ يمكن تقاسمها -مساجد وكنائس وأديرة ومقابر...

عقب ترهل الفكرة وتشتتها داخل" حركة القوميين العرب" واندلاع الخلافات النظرية متعددة العناوين، لم يعد أمام الجبهة الشعبية سوى الانطلاق، فقرر العقل المتنور الذي يقوده جورج حبش مع باقة من خيرة المناضلين والمثقفين الأشداء القيام بتغييرات جذرية، كان ذلك التوجه قد بدأ منذ سنوات، بخاصة بعد قيام منظمة التحرير الفلسطينية التي صاغت الهوية الوطنية ببراعة نادرة، وسطع نجم الميثاق القومي- الوطني... وما إن كانت نكبة فلسطين الثانية عام 1967 حتى بات الجهد أكثر تسارعاً بخصوص لحظة إطلاق الجبهة الشعبية.

أهم ما في التجربة الغنية هذه كان إدراك أسس وفحوى الاتجاهات والوقائع والتوجهات والحلم ككل لا ينفصل، مما أنتج فكرةً كليةً، فامتزجت الثقافة بالنظرية والعمل العسكري الساطع بالهدف المدروس، وكان لا بد من تحضير الكادر بسكب البنية المتينة في تكوينه لا في حلقات الدبكة، والأهم مما تم إنتاجه هو توصيف العدو والصديق، كما وبالتالي سطوع نهج الرفض لشتى أنواع التذبذب والتلاشي والخضوع والاستسلام، كانت هذه الأسئلة بحد ذاتها قوة فهم إبداعي طال جوانب وتفاصيل القضية المختلفة، وما حول ذلك أيضاً، وأشرق مزج العقل المتنور بين التنظير والعمل الكفاحي على الأرض، لهذا كانت الشعبية كتلة ثورية مخيفة للأمريكان والصهاينة وتوابعهما من الأنظمة العميلة، فحوربت بشتى الأشكال من تضييق واعتقالات، وتم تتويج ذلك بالانشقاقات المفتعلة والمدعومة الممولة من قبل أنظمة تحمل من الشبهات أكثر مما تحمله من شرعية.

أهم ما حافظت عليه الشعبية هو قوة الفكرة داخل الكل الوطني، فكانت إنْ هي قاتلت تقاتل فقط من أجل فلسطين وشعبها، وإن قامت بجهود إعلامية فذلك من أجل القضية واللاجئين والأرض، وإن اختلفت أو اتفقت مع بقية التيارات الوطنية حافظت على دائرة الوحدة الوطنية، وحتى الخلاف الداخلي بخصوص توقيت عمليات الجهاز الذي يقوده العظيم وديع حداد، فقد كانت من أجل المصلحة الوطنية الوحدوية ودرء عدة أخطار قادمة، ولذلك أيضاً رفضت بحزم ووضوح كل أنواع الانشقاقات مهما كانت عناوينها لإدراكها بأن أي انشقاق لا يمكن إلا أن يُضعف الكل الوطني، وبالتالي هي تخدم العدو ولهذا صرخ الحكيم عالياً عام 1983 صرخته الشجاعة من قلب دمشق بكل وضوح" :كل انشقاق هو خيانة وطنية".

قاتلت الشعبية إلى جانب كل فصائل المنظمة مساهمة في صواباتها وفي أخطائها، لكنها كانت إلى حد كبير موطن احترام من قبل الكل الفلسطيني والعربي والعالمي حتى من قبل أولئك الذين يخالفونها منهجيًّا لأسباب مختلفة، ولم تمنعها خلافاتها الجزئية والكلية مع حركة فتح التي شكلت وإياها بؤرة ونواة الثورة والمنظمة من الاستمرار في لغة وفلسفة الوحدة الوطنية، على الرغم من خروجها لمراتٍ عدّةٍ من اللجنة التنفيذية للمنظمة احتجاجاً على تصرفات وتحركات سياسية لا توافقها فكريًّا وسياسيًّا.

تسطعُ الآن فكرةٌ مهمّةٌ ضمن هذا السياق، مفادها أن خطر الترهل ثم التلاشي على كل من فتح والشعبية في آن معاً ليس المال أوعدد الأعضاء أو... بل في قطيعتهما الحالية بعد ميوعة الفكرة، فلم ينهض الفلسطينيون بثورتهم إلا على يد التنوع الفصائلي داخل المنظمة، والشعبية وفتح هما عماد ذلك التنوع المميز في الحالة الوطنية، من هنا كان قد برز منذ البداية لدى الشعبية منهج "وحدة وصراع".

حال الشعبية اليوم كما الفصائل والمنظمة، ليس على ما يرام، لكن خطر التلاشي غير قائم فعلياً، لأن الفكرة الأساس ما زالت ومع كل شوائبها صائبة، ويمكن القول: إن الخطر على الجبهة الشعبية ليس في تقلص عدد أعضائها، أو قوتها المالية أو علاقاتها الدولية والإقليمية، بل هو يتمثل في صورتها المطبوعة في ذهن ونبض الشارع كحالة مميزة خصوصية واستثنائية، يتمثل الموت السريري في تلاشي الفكرة أو اختراقها من قبل بعض التيارات التي لا تمت بصلة لفكرتها العلمانية الأساسية، الفكرة الفدائية المقاتلة، أي في تلك الراديكالية الإيجابية التي تفهم العلاقة بين الوطني واليساري والعلماني والقومي، مع التركيز على فوهة البندقية النظيفة التي تتوجه فقط نحو العدو، تلك البندقية ذات السبطانة التي لا يصحُّ أن تجدها باردة أبداً.

لا يمكن لهذا الفكر- الفصيل إلا أن يكون هو الفكرة، قبل الجسم والهيكليات، لا يليق بالجبهة الشعبية إلا أن تكون تحت عنوان: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ولا شيء آخر، هذا ما قالته النظرية الأساسية- الدينامو العجيب الذي ينتشل القوة من قلب غبار الضعف، من هنا فحياة الشعبية في الفكرة - النظرية ذاتها لا في كونها حزبًا أو فصيلًا وإن كان ذلك غير منفصلٍ عن بعضه شكلانيًّا.

إنّ الموقد الأساسي لنار الشعبيّة ليس المحلّي أو الإقليميّ، نار الشعبيّة عالميّة ويجب أن تتقد كما اتّقدت في ذي قبل، ولا يقولنَّ أحد بأن الظروف الإقليميّة والدوليّة قد تسمح أو لا تسمح، فالظروف العالمية والإقليميّة الآن ذاهبة نحو تغييرٍ كبير، ربما سوف يشابه الوضع مع نهاية الحرب العالميّة الثانية التي سمحت بإقامة كيانٍ مسخٍ على أرض الأبدية، والكيان يتلاشى من داخله تدريجيًّا وإن كان ببطءٍ شديد، وعلى الفلسطينيين اعتماد التحديث الدائم، كما أنه وجب التذكير بأن لحظة الانطلاق عام 1967 لم تكن قد تمَّت في فضاء أفضل...

عاشت الذكرى، وطوبى للصادقين.