عانت أقدام الحكيم منذ طفولته رحلة العذاب والشقاء والمعاناة مع أبناء شعبه، فقد كان يوم 11 تموز من عام 1948 بالنسبة له بداية درب الآلام وطريق الجلجلة عندما شرد مع أهله وشعبه وحوصرت مدينته اللد، فكان ذلك اليوم للحكيم كما يروي يوم أسود.
إنها البدايات لتشكل المشاعر وتنامي الوعي الوطني لمناضل شاهد منذ نعومة أطفاله بطش وظلم الاحتلال واكتوت أرجله في مسيرة الطرد والترحيل لعشرات القرى التي دمرت وهجر أبنائها قسراً بفعل جرائم وبطش العصابات الصهيونية المدعومة استعمارياً من بريطانيا، وبصمت وتخاذل جيش الانقاذ العربي آنذاك الذي لخص موقفه طبيعة النظام الرسمي العربي الذي ما زلنا ندفع ثمن عجزه منذ نكبتنا الفلسطينية العربية عام 1948 وفي الهزائم المتلاحقة حتى الآن، وما واقع ومواقف الجامعة العربية إلا تعبير ومحصلة لمآل مؤامرة ما زالت تنسج خيوطها ضد شعبنا وحقوقه الوطنية.
إنها رحلة البداية لفلسطيني اختزل في ذاكرته معاناة شعب لتكبر الحكاية.
لإنسان وقائد تمتع بحس مرهف ومشاعر انسانية وعاطفية لتتوسع إلى مشروع رؤية وطنية لقائد حكيم استطاع مع رفاق دربه أن يطرح ويجاوب على السؤال الكبير وهو لماذا هزمنا؟
وعلى مدار مسيرة حياته ونضاله ثابر حتى لحظة استشهاده وهو يحاول توفير كل عوامل وأسباب النصر والوجود لشعب وهوية، ولقضية عادلة وطنية وقومية وإنسانية وأسهم فكرياً وثقافياً ونضالياً وعلى كافة الأصعدة وبأساليب النضال المختلفة من أجل تكريس الهوية الوطنية لشعب تمتد جذوره عبر التاريخ.
إنه الحكيم الإنسان الذي تجد فيه براءة الطفل وصفاء الروح والأمل القادم وتجد بمقامه ومقاله وبثقة عميقة كل ما يبعث على التفاؤل الحتمي والتاريخي بالانتصار، بإرادة لم تكل وبقبضة لم ترتخي في أصعب الظروف.
فكان الأب والرفيق، فلا يكاد طفل أو امرأة أو شيخ أو عائلة شهيد أو جريح أو أسير يلتقيهم إلا ويجدوا فيه القلب الدافئ والحاضنة الوطنية المسؤولة، الذي وثق به واحترمه الجميع حتى من اختلف معه ولم يدر ظهره أو يوصد الأبواب أمام أي عائلة فلسطينية طرقت باب مكتبه وقصدته بمساعدة أو لقاء.
يلخص الحكيم الإنسان كل المعاني الإنسانية والقيم الأخلاقية والنضالية التي عكسها وعمل على تجسيدها في أوساط وصفوف مدرسته النضالية وبعموم ساحتنا الوطنية وعلاقات الثورة قومياً وأممياً، فهو الانسان الثائر والحكيم والقائد، إنه الأمل المفعم وإرادة القوة والتصميم الذي جعله يتبوأ موقعه كقائد وحكيم يملئ صداه أرجاء المعمورة وعلى مساحة المناضلين الثوريين من أجل الحرية والتحرر والكرامة والديمقراطية، من أجل الاستقلال والعودة، وهو القائل بأنني لن أعود إلى الوطن إلا مع آخر لاجئ فلسطيني.
القائد الذي تمتع بنظرة ثاقبة وديالكتيكية رغم تعقيدات المشهد النضالي الفلسطيني، ورغم حدة الخلاف والصراع الداخلي في أوقات كثيرة إلا أنه أمسك بقانون الوحدة والصراع وغلب الوحدة في الميدان وفي ساحات الانتفاضة وكان يردد مع القائد الراحل أبو عمار (وحدة وحدة حتى النصر).
رغم الصراعات العربية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية والتدخلات الاقليمية لم يستقوي الحكيم أبداً بمحاور وأجندة خارجية وكانت قضية شعبه واللاجئين والمخيمات خصوصاً أولوية له دفاعاً عنها وحماية لها، فلم يقاتل بسيف أحد ولم يستقوي بأطراف خارجية على الداخل الفلسطيني وكان يعي بدقة وجدلية ويربط بين استقلال القرار الوطني الفلسطيني والمسؤولية القومية في مواجهة المشروع الصهيوني الذي يستهدف الأمة العربية حاضراً ومستقبلاً.
إنه الحكيم والقائد الذي جمع بين صنوف السلاح وأجاد كافة وسائل النضال واستخدمها في معارك الثورة المختلفة.
القائد الذي جمع بين أنواع ومؤهلات القيادة فكان القائد الديمقراطي بامتياز والحازم والتكنوقراطي بحكم كفاءته الأكاديمية وبتناغم لم يطغى شكل بيروقراطي أو استبدادي على الأسلوب الديمقراطي الذي حكم قيادته صفوف الجبهة وعلاقاته الوطنية، فاستحق بجدارة لقب الحكيم واحتل كقائد قلوب محبيه وشعبه.
رغم تقدمه بالسن واعتلاء الوقار والثلج الأبيض رأسه لم ييأس ولم يحبط وبقي التفاؤل الثوري سيد القوم والموقف عنده.
بقي الحكيم وهو على فراش رحيله وحتى اللحظات الأخيرة من حياته يسأل عن حصار غزة والوحدة والمقاومة والانتفاضة.
يسأل عن الوضع العربي ومصير الربيع الديمقراطي، ظل مؤمناً بالتغيير الحقيقي والتجديد الديمقراطي والتفاؤل الثوري التاريخي كسمة لنضالات الشعوب المكافحة، كان مؤمناً بشمس قادمة وضوء سيضيئ النفق المظلم ويبدد الواقع العربي المرير.
في ذكراك وبعد رحيلك يا حكيم لم تفارقنا لحظة وما زالت روحك ترفرف وترافقنا وتصعد بنا إلى الأعلى، وما زالت قيمك نبراساً وبوصلة للشباب الفلسطيني والعربي الذي آمنت بدورهم وموقعهم وجسدت التجديد حقيقة، اليوم شباب الانتفاضة والشباب العربي وأحرار العالم لم يضلوا الطريق رغم سيطرة شريعة الغاب وما زالوا يشددون الحصار والمقاطعة للمشروع وللمصالح الصهيونية.
كما كنت الرجل الذي هز العالم أكثر من مرة ما زالت قيمك وأفكارك تطرق جدران الخزان في مدرستك الجبهاوية والوطنية والقومية.
نم قرير العين يا حكيم، فمن آمن بنهجك وقيمك لن يستوحشوا طريق الحق لقلة السائرين فيه، فأنت صوت الحق، وقضيتك التي آمنت بها هي الحق المطلق التي ستنتصر مهما طال عمر البغي والباطل، ومهما عظمت التضحيات.
ف فلسطين ستعود حرة محررة وسيعود اللاجئون إلى أرض الأجداد والآباء وإلى ممتلكاتهم التي شردوا منها عام 1948.
هذا هو وفائنا وتخليدنا لك يا حكيم.