Menu

في الذكرى الخامسة والأربعين لاستشهاده

غسان كنفاني " رجل في قضية .. وقضية في وطن "

غسان كنفاني

بقلم / لمى عبد الحميد

في بدء التكوين الأول لمعالم الهوية وبعد أن أدركنا بمحض الصدفة البحتة مفهوم العربي وجدنا أنفسنا بمواجهة الحدود لندخل تعريفاً أكثر تحديداً بالأرض فكانت " فلسطين " وفي العبور إلى الانتماء والتأصل بالهوية غرقنا بيسار القضايا وآثرنا البوح على الصمت ولأن الصمت لا يمنح تأويل الكلام أهدتنا تلك القضايا أجمع اسماً هو جمع لكل القضايا وفي تفاصيله كلها وثقّنا فلسطين " غسان كنفاني " هو الأرض والأرض هو كلّما انسلخنا عن اللقب الأول لنطلب استحقاقاً جديداً في فلسطين

غسان كنفاني جدوى الكلمة في قهر الاحتلال .. رجل في قضية .. قضية في وطن .. ووطن اصطفى مذهب الشهادة راية في سماء الوجود ..

لو كان بيننا لو بدأ هو بالحديث عن نفسه لاختار غسان الشهيد وإن تعددت التسميات والصفات لأن الشهادة بنظره طريق العودة الوحيد لفلسطين فاختار أن يكون عرّابه مستفزّاً كل جغرافيا الأرض متقدّماً بجسارة وأكثر ذاكرةً وحفظاً من التاريخ نفسه إن منطق الشهادة الملتصق بتعريف غسان للأرض هو من منحه لقب كاتب القضية الذي وثّق فكرته شاهداً فيها لما سقط شهيداً أعلى من حدود الكلام مؤسساً بذلك مدرسة تستبسل فيها الكلمات بذات وقع البنادق والمدافع ولنسلّمه نحن أبجدية كل اللغات كفناً يلفهُ علم فلسطين ويعبق برائحة الأرض والكرامة ..

قتلوه جسداً وقاتلناهم باستشهادك خلوداً .. كتاباً .. وكلمة قالت الصهيونية " غولدمائير " حين اغتاله الموساد الإسرائيلي بتفجير سيارته التي أودت بحياته على الفور

(( اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح )) وأجبناهم نحن على لسان درويش

طوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة

ولا تكفيه رصاصة

نسفوك كما ينسفون جبهة

وقاعدة وجبلا وعاصمة

وحاربوك كما يحاربون جيش

لأنك رمز وحضارة جرح ...

نعم غسان رمزٌ من رموز فلسطين الذي خلّدها بكل كتاباته فكان مرجعاً يرسّخ حق شعبه بالأرض بكل تضاريسها , لما أنكرت الوثائق والدراسات رواية التاريخ هو موسوعة الجرح المفتوح على خارطة هذا الوطن لما راح يبني باباً لذكر فلسطين وما يجري بها بالعمل الصحفي بدايةً فكان له الفضل بإعادة النظر في طريق سير العمل الصحفي بشكل عام بل هو أول من اتخذ منه سلاحاً مقاوماً في وجه الاحتلال ونظراً للرؤية العميقة التي امتلكها , أراه فيها سياسياً من الطراز الرفيع لقدرته على التحليل الصائب والتوقع الذي يستقر بالهدف ولذكاء السياسي بالتعريف الأول لحالات دخلت اللعبة السياسية من بداية القضية ليتحدث عن مفهوم "اللاسلم واللاحرب" الذي نعايشه إلى الآن , وهذا  ليس على صعيد فلسطين فقط بل وعلى صعيد الساحة العربية ككل فوحولة الواقع العربي المليء بالانقسام والتشرذم  في فكر غسان سبب رئيس لاستمرار الاحتلال إضافةً للضعف القومي الذي ينمّ عن تعاملات تحت الطاولة بين العدو والبنية الهرمية للأنظمة العربية المفتقرة للوحدة مع القاعدة الشعبية والحداثة التي تواكب تطور كل دول العالم وهي العنصر الأهم القادر على تغيير معادلة الخسارة لفوز مؤكد , وهي العاجزة عن إيجاد تلاحم عربي شامل يناهض ويقاوم في سبيل كل الأقطار , ولأنه قام أيضا باستحداث جانباً بالعمل الصحفي قام فيه بفتح المجال للتعليقات والدراسات السياسية لما كان يجري في الوطن العربي , لمع اسمه وذاع صيته كصحافي متميز أثرى وفعّل جوانبا بالصحافة لم يسبقه إليها أحد , شغوفاً بالقراءة يقتات الورق ليبدع في إخراج الكلمة إضافة للمخزون الذي حمله من ذاكرة فلسطين وويلات احتلالها والتهجير القصري الذي فُرِضَ عليه فكان كل ذلك خلفيته التي يبني عليها جميع كتاباته , أسلم نفسه للقلم ليترجم المعنى الحقيقي لما يعايشه الإنسان أولاً وبخصوصية الفلسطيني ثانياً

كتب عن المراحل المختلفة التي مرَّ بها الفلسطيني من الاحتلال إلى المجاز إلى النضال ثم التهجير ونهاية المطاف في الرحيل إلى المنفى وعن ضياع القضية يوم تملّك الانسان هم لقمة العيش وعن ضعف النفس في مواجهة متطلبات الحياة في ظل لجوء لا يقدم لك سوى المزيد من الغربة والغرابة .. الانشطار والتشظي .. فأنت هناك رقم متسلسل لهوية مغتصبة وأنت هنا مجرد من كل الحقوق وتحاول أن توثّق بكل معناك أنك إنسان يحمل قضية أكبر من كل القضايا فكانت المقاومة برأي غسان هي السبيل الوحيد للنفاذ إلى وطن يقدّس المعنى الحق لذات الإنسان وهي السبب الذي يدفعه للبقاء للاستمرار واضعاً ثقل أن يطالك الموت العادي بين خفايا سطوره قبل أن تُكمل ما خُلقت له من الأساس " المقاومة"

كتب بعمق فلسطين ليجعلك تبحث بكينونة المعنى قبل أن تعرّج على الأحرف والكلمات وبِعُريٍ كامل تتجرد الحقيقة للتساؤل الأهم عن سبب الوجود ؟! وما قيمة الاختيار والتوجه في حياة لم تمنحك الكثير؟! هذا ما تجسّد فعلياً بقوله

(كلنا أتينا إلى هذه الحياة رُغم أنوفنا ثم بدأنا نبحث عن المبرر لقد اخترعنا هباً ونصبنا حجراً أبيض مشعاً بين بيوت الناس ثم اخترعنا الإنسان ثم قلنا إن مبرر حياتنا هو أن لدينا فرصة الاختيار ..)

كان يدفعك دون أن تدري إلى صلب الفكرة التي يؤمن بها وإن لم يلفظها بعلانيةٍ ووضوح , بل كان وقعها أشد على النفس من ألف مدفعية يرمينا بها الاحتلال حين قال :

( الموت إنه الاختيار الحقيقي الباقي لنا جميعا أنت لا تستطيع أن تختار الحياة لأنها معطاة لك أصلاً والمعطى لا اختيار فيه اختيار الموت هو الاختيار الحقيقي أن تختاره في الوقت المناسب قبل أن يفرض عليك في الوقت غير المناسب قبل أن تُدفع إليه بسبب من الأسباب التي لا تستطيع أن تختارها كالمرض أو الهزيمة أو الخوف أو الفقر إنه المكان الوحيد الباقي للحرية الوحيدة والأخيرة والحقيقية )

غسان كان رساماً أيضا ساهم بلوحات عدة من جهده الخالص ليمنح الحضور الكامل لفلسطين بعدة مجالات مختلفة ورسم عدة ملصقات منها شعار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي انتمى إليها فكراً وعملاً هذا الفصيل الذي أعطى الحرية المطلقة لكلماته التي آمن بها وحارب من أجلها وبرأيي غسان منح الجبهة الشعبية بعداً آخر أعمق وأكثر نضوجاً فالقاعدة الأساسية التي يُبنى عليها نجاح أي فكرة أو قضية "الوعي السياسي" وهذا ما ساهم به غسان كنفاني بشكل كبير فخلق قاعدة شعبية تقرأ وتعي وتحلل بما بعد الحدث ودراساته جميعها حُفِظَت كتعاليم يلجأ إليها أجيال متتابعة ومتلاحقة من أبناء فلسطين والمذهل إنه ترك بمدة قصيرة من عمره ما يصلح لكل المراحل التي بعده هو جسّد حقبة كبيرة من الزمن وكأنه عاش مئة عام وأكثر بل  تغلّب على الزمن نفسه لما خلّف وراءه من التوقعات والتحليلات ما أثبتته الوقائع والأرض ..

كان فناناً شفافاً بنظرة نافذة للعمق المؤثر على الإنسان أي شيء وقع بين يديه وسيلة أخرى للمقاومة ليذكر الجميع بالقضية وليؤكد دائماً على طريق العودة وتمثّل هذا بحادثة  بسيطة طلب فيها من تلاميذ صفه وقت كان يعلّم التربية الفنية بمدارس الغوث أن يرسموا منظراً مرعباً اختلفت اللوحات والرسومات في تحليل الرعب الذي قصده فأجابهم بأن ما أعطيتموني إياه تعريفات مختلفة للخوف ليترجم المعنى بعبقريته الفنية على لوح رسم فيه " دفتر الإعاشة " وقال هذا منظر مرعب , عرف غسان أن التهجير حكاية ستطول فلا طعام يمكن أن يشبع الجوع إلى الأرض والحق فيها .. ولا منفى يمكن أن يحتويك طالما كنت أرضاً فيه  

ومن الضروري أيضا أن نضيء على الجانب الآخر لغسان الذي كتب به عن الحب فأبدع وترك إرثاً راقياً عن حب لا تستهلكه الكلمات المطروقة على السمع كثيراً بل كانت بفمه وقلمه وقلبه بِكراً متعالية عن التماثل ومتفردة بالحس العالي تلهب كل من قرأها وتجلّى هذا في رسائله لغادة السمان والتي قالت عنها الأخيرة بأنها بحاجة لقراءة نقدية إبداعية جديدة بعيداً عن الهياج والايديولوجية و ردّات الفعل الهزلية الهزيلة

غسان الثائر الأديب والكاتب المقاوم الذي عدّ الإنسانية المرتبطة بالعيش الحر على الأرض  المنطلق الأول للواقع والوجود وأي نقص يمسّها من أي جانب هو سبب منطقي للحرب والمقاومة وهذا ما كان يعانيه الفلسطيني وما كان يعمل عليه لإيصاله للعالم , ليس ثمة حل بديل للأرض وكرامة الإنسان لا تنفصل عن الأرض وكل منافي العالم لا تتسع لصدر يتنفس الحرية وكل ضلع من ضلوعه بندقية مُخَبّأة بانتظار العودة ..