الزمن كقيمة رياضية يُساوي المسافة منقسمة على السرعة. في الفلسفة تفسيرات كثيرة قد يكون أهمها تعريف الألماني إيمانويل كانط: «الشكل المحض للحدس الحسي». في الأسر كيف يُفسر أو يُقاس الزمن: هل يُقاس بعدد الشعرات التي تحوّل لونها من الأسود إلى الأبيض، أم بتلك «الأخاديد» التي حُفرت في الوجه وحول العينين؟ وماذا يعني أن يكون الإنسان محبوساً في «صندوق» من الإسمنت منذ عقود، وكيف بعد هذه السنين الطويلة يظل قلبٌ في قفص صدري قادراً على أن يخفق بحب ودهشة لمجرد رؤية نجم في السماء؟ وماذا حين يكون هذا الأسير ممن يعرفون بـ«الدفعة الرابعة» (أسرى الـ48) أو ما قبل اتفاق أوسلو الذين ترفض إسرائيل الإفراج عنهم في أي صفقة؟ أسئلة كثيرة يُجيب عنها الأسير منذ 34 عاماً وليد دقة الذي تتهمه إسرائيل ورفاقه بخطف الجندي الصهيوني موشي تمام وقتله عام 1984.
وبما أن الزمن في الأسر يمشي بالتوازي مع زمننا، فإنه يُصادف اليوم أيضاً الحادي عشر من نيسان/أبريل 1988 عندما استُشهد إبراهيم الراعي أو «أبو المنتصر». الأخير يُشبه ظاهرة طبيعية تحدث مرة كل ألف عام، إذ أصبح أنموذجاً للصمود بعد صمته في التحقيق 11 شهراً انتهى باغتياله داخل الأسر. ومنذ ذلك الحين، يُؤرّخُ للصمت على أنه بديهة، وللاعتراف بأنه خيانة وشذوذ. والراعي تتهمه إسرائيل بالعلاقة بعملية دقة ورفاقة الخمسة، وجميعهم من باقة الغربية في الأرض المحتلة عام 1948.
بعد ثلاثة عقود وأربع سنوات في السجن، كيف تتذكر يوم اعتقالك؟
الذاكرة انتقائية والنسيان نعمة، وعندما لا تكون قادراً على النسيان، يأتي دور خط الدفاع الثاني، وهو انتقائية الذاكرة، حتى تبقى محافظاً على توازنك. إن الاعتقال صدمة للعقل والجسد، فهو اللحظة التي تنتقل فيها من لحظة أنت بها حُر جسداً، إلى حياة جسدك مُسيطر عليه من آسرك. يُقيده، يحجزه، يركله... وأنا في هذه اللحظة كان عقلي، وربما روحي، تتأمل هذا الجسد الذي أُسِر من خارجه كأنه جسد شخص آخر، أو ربما أيضاً سلّم عقلي بعقلانيّة باردة بأن الجسد الممدَّد في سيارة الجيب مقيداً لم يعد من مسؤوليته، لأنه مهما أجهد خلاياه فلن يكون قادراً على أن يمنع ما قد يلحقونه به من ألم. قد تستغربين بماذا انشغل عقلي في تلك اللحظة: لقد اعتقلت من مكان عملي، حيث كنت قبل دقائق من ذلك قد حضّرت فنجان نسكافيه، واستعددت لتناول رغيفين، أحدهما «بيتا» بالزيت والزعتر، والآخر باللبنة، كانت أمي قد حضّرتهما لي. عندما قضمت من عروسة اللبنة، كما تسمونها في لبنان، قضمة واحدة، وقبل أن أتمكن من بلعها، كنتُ ملقىً على الأرض ومقيداً. في هذه اللحظة، أوّل (فسّر) عقلي المشهد بالكامل. والعقل في لحظة الصدمة بالذات مُخادع، إذ لخّص المشهد بفقداني رغيف اللبنة الذي بقي مذاقه يُذكرني بوالدتي لا بالاعتقال، الذي إن كان في الزمن العادي لحظة، فإنه في زمن السجون لحظة امتدت حتى الآن 34 عاماً.
كم مرّة يئست أو فكرت في أن الحائط مسدود؟
اليأس كلمة كبيرة لا أحبها وأخشى استعمالها. اليأس رفاهيّة لا يُمكن لأحدٍ في مثل حالي أن يصل إليها. هذا لا ينفي أنه في بعض اللحظات لم أبكِ من شدة الكوارث التي حلّت بشعبنا وأمتنا العربية، وجسدت في مشهد طفل متفحم في ملجأ العامرية في بغداد، أو طفلة تنتشل من تحت الأنقاض في الضاحية الجنوبية بعد القصف الإسرائيلي الهمجي، أو لمشهد المجازر في غزة أو القتل بدم بارد على الحواجز في الضفة. لكنها لحظة وسرعان ما أعود إلى توازني، وبالتالي أنا لا أُفكر في الأسر كما شاؤوا، بل كتجربة وموقع وزاوية لمشاهدة مجمل الحالة العربية والنضالية.
لقد قلت ذات يوم إن السجن أبشع أسلوب اخترعته البشرية لمعاقبة الإنسان. كيف يمكن الأسيرَ أن يتغلّب على هذا العقاب؟
السجن مكان حقير، وهو فعلاً أسوأ اختراع صنعه الإنسان. ولكن الأسر هو الأخطر من السجن كمكان، أي السجن كعقلية أو ثقافة، فهذا الذي بين أكتافنا يمكن بسهولة أن يتحول إلى زنزانة يُسجن صاحبها، رغم أن جسده حر طليق، وما أكثر الزنازين المتحركة في عالمنا العربي. وللتغلب على السجنين، سجن المكان والعقل، لا بد من الوعي والتثقيف، وهذا ما كانت تبذل الحركة الأسيرة فيه جهداً. الوعي والتثقيف لا يشملان تاريخ فلسطين والنكبة وقضايا الأمة العربية وهمومها فحسب، فهذه الثقافة إن جاز التعبير أُسميها ثقافة التحرر. لقد تبين لنا أن قيم التحرر من الاحتلال لا تعني بالضرورة أن حاملها يدرك قيم الحرية ويتمثلها، فهناك فرق كبير بين التحرر والحرية: الأولى هي النضال ضد الخارج، والثانية هي النضال الداخلي الأصعب، لبناء المجتمع والدولة. للأسف، تحررنا من الاستعمار، ولكن لم يُفضِ ذلك إلى بناء الدولة بسبب غياب الحريات. فما معنى أن يقمع المناضل التحرري رفيقه وشريكه في هذا النضال عندما يعبّر عن رأيه في قضية ما؟ انظري إلى ما يجري في غزة ورام الله على حدٍّ سواء. الحرية قيمة تفضي إلى التحرر، والتحرر مرحلة نضال لا تفضي، إذا لم يكن مناضلوها يعون معنى الحرية وأهميتها، إلى بناء المجتمع والدولة. من الصعب على التحرريّ أن يتنازل عن بندقيته إذا لم يدرك أثناء مرحلة التحرر أن الحرية قيمة، وسيكون من السهل عليه في أول نقاش مع شركائه من القوى السياسية في الوطن أن يوجهها (البندقية) نحو الداخل.
على كل الأحوال، بالإضافة إلى ما ذكرت، فعلى المستوى الشخصي، كان للروابط الأُسرية دور كبير في تعزيز قدرتي على تحمل عبء سنوات الأسر الطويلة، ولا سيما أمي فريدة، وزوجتي سناء التي ربطت مصيرها بمصيري. هذه العاطفة الإنسانية، وهذا الحب الكبير الذي أحاطتني به سناء، لم يعززا قدرتي على الصمود فحسب، بل منحني حبها القدرة على إعادة إنتاج ذاتي كتابة وإبداعاً وتواصلاً مع هموم الناس في فلسطين والوطن العربي، مما وفرته لي من كتب ودوريات ودراسات. إن أسوأ ما في الزمن داخل الأسر، دائريته المملة والمتكررة إلى حد اللزوجة تماماً، كباحة السجن التي ندور فيها حول لا شيء. إن سناء جعلت زمني في السجن خطاً مستقماً صاعداً نحو المستقبل الذي نسير إليه رغم محيطات العنف والكراهية، بزورقنا الصغير الذي صنعناه من نعناع وريحان الحياة، حتى نصل به إلى شاطئ المستقبل ليكون ميلاداً جديداً (تمنع إسرائيل الزوجين وليد وسناء من الحصول على ما يُسمى الخلوة الشرعيّة للتمكن من إنجاب حلمهما، طفلهما ميلاد، رغم أنهما قدّمها عشرات الاستئنافات القضائية).
إلى ماذا تشتاق، ولمن؟
أعتقد أن الشوق والحنين القاسم المشترك الذي يجمع كل الفلسطينيين، بل أكاد أقول إن الشوق للأماكن أصبح مكوّناً من مكونات الهوية الفلسطينية. اللاجئ يشتاق لبلده ويريد أن يعود، والأسير أيضاً يشتاق لبيته وأهله وحارته. لكننا في الحقيقة نشتاق للذاكرة التي تحملها هذه الأماكن، وعودتنا إليها هي عودة إلى الذاكرة، ولكنني أعي أن هذه الأماكن تغيّرت بعد مرور السنوات الطويلة، ولم تعد تحمل الذاكرة نفسها، كما أدرك أيضاً أن الحداثة والعولمة التكنولوجية والاقتصادية سلّعت كل شيء، وصارت إمكانية العودة إلى الذاكرة كما نتخيلها مسألة مستحيلة. هل يعني هذا أنني تخليت عن العودة والتحرر؟ بالطبع لا، ولكنني لا أريد العودة إلى فلسطين الماضي، فلسطين الانتدابية حيث الصبار والرمان وطواحين الماء، لأنها ببساطة غير موجودة إلا في الذاكرة. عندما تصبح فلسطين رومانسية، يغدو حق العودة طوباوياً، وهذه الرومانسية للعودة تبعدنا عن العودة نفسها. أنا أريد العودة إلى فلسطين المستقبل التي لا بد أن تتطابق فيها الهوية الوطنية الجامعة مع جغرافيا الوطن الكامل.
اتفاقية أوسلو تنازلت عن جزء من الوطن مقابل الدولة واستعاض أصحابها عن العودة بحكاية العودة. والعودة بهذا المعنى كانت فولكلورية، مع تقديري واحترامي لهذا المكوّن في هويتنا، لكنه تضخم، وأصبحت الدبكة الشعبية بديلاً من برنامج العودة. استُبدل بالعودة ما يُشبه العودة، واختزل الوطن إلى ما يشبه الوطن، بعدما تحوّلنا من حركة تحرر إلى سلطة لا تملك سيادة، وإلى سلطة لا تشبه السلطة. هذا التضخم الرومانسي جاء ليعوّض غياب فعل التحرير، فأبعد فلسطين بدلاً من أن يقربها. اللغة ليست بديلاً للوطن الفعلي، لاحظي التسميات التي يطلقونها على الأسرى: «عميد الأسرى»، أو «جنرالات الصمود والصبر». هذا التورم اللغوي إنما يعبّر عن العجز عن تحرير الأسرى، وأنا بهذا المعنى توّاق إلى الوطن أو الذاكرة التي سنصنعها. أنا توّاق إلى المستقبل، البيت الذي سأعمره، فهناك سأعيد ترتيب الذاكرة في المكان الذي سأحدده. وربما كما أذكر لرفاقي في الأسر أحياناً سأعدّ في هذا البيت الذي سأعمره بعيداً عن ضجيج المدينة وصخبها دلّة القهوة، ومن حولي ستدور في الباحة أربع دجاجات بلديات، وعنزتان شاميتان، وكلب أخرس كي لا يجرح السكينة بنباحه.
عندما تتحرر ما أول شيء ستفعله؟
الأسير محروم أشياء كثيرة، منها المادة، وأشياء معنوية أهمها الخصوصية، فأنت لا تملك لحظة واحدة مع ذاتك. أنا منذ ثلاثة عقود على مدار 24 ساعة أعيش مع زملاء لي في زنزانة ضيقة، نأكل ونشرب وننام ونستحمّ فيها، وهذا خانق بصورة جنونية. حتى الباحة الشمسية مراقبة بالكاميرات، وعلينا أن نعيش حياتنا كما لو كنّا في «برنامج الأخ الأكبر» (برنامج تلفزيوني إسرائيلي) ونحن على الهواء مباشرة. أول شيء أرغب في فعله هو الذهاب إلى البحر. أنا مشتاق للبحر، وأريد أن أجلس قبالته وحدي في شاطئ ناءٍ بعيداً عن الناس، وأعترف له بكل شيء. سأزيح عن كاهلي كل الأقفال والقيود التي تراكمت على جسدي. سأحكي له عما حلّ بي على مدى هذه العقود الطويلة. سأصرخ وأبكي وألهو برمله مثل طفل، فالبحر هو الوحيد الذي يمكن أن أضعف أمامه وأن أنزع ملابسي دون خجل منه. أمام البحر سأخلع عني وجع السنين لعلني أستعيد.. توازني.
ستنال حُريتك ذات يوم، وأنت تعي أن أشياء كثيرة قد تغيّرت وتحوّلت في واقع الحياة اليومية للناس... كيف تحضر نفسك لاستيعاب ذلك؟
تطور هائل حدث خلال هذه العقود الثلاثة، وأنا بهذا المعنى رجل الكهف. أنتمي إلى عصر انتهى، ومن الصعب استيعاب العصر الجديد وإدراك التطورات التكنولوجية فيه، ولا سيما الواقع الافتراضي الموازي للفعلي. الأهم والأصعب استيعاب التحولات الاجتماعية والقيمية التي ترتبت عن هذه التطورات. التكنولوجيا لم تغير حياة الناس فقط، بل خلقت تحولات في نظرة الإنسان وفهمه لنفسه وإدراكه للآخرين، وهذا أيضاً حدث بفعل ما أجرته التكنولوجيا على إدراكنا للزمان والمكان. أعتقد أنني، من موقع رجل الكهف المُراقب من خارج العصر دون أن أتورط في تفاصيل غابة الحياة الحالية، قادرٌ على تجسيد هذه التحولات الأخلاقية والقيمية وفهمها حتى لو كنت متخلفاً تكنولوجياً. أدرك أننا صرنا ننتقل من مكان إلى آخر بسرعة الضوء عبر الشبكة العنكبوتية، وأصبحنا هنا وهناك في ذات اللحظة، وهذه بالمناسبة صفة من صفات الكائنات الماورائية مثل الملائكة والشياطين. هذا المكان لا قيمة له، بينما الزمن هو القيمة، وقيمته ليست أخلاقية، بل مادية خالصة، وعندها تفككت أدق تفاصيل حياتنا الاجتماعية والإنسانية، إذ إن الرجل لم يعد لديه الوقت ليتأمل وجه طفله ويراقب باستمتاع إنساني نموّ أضراسه الجديدة. لقد فقد الناس القدرة على الاستمتاع بالحياة الغنية مادياً والفقيرة معنوياً وأخلاقياً. المصيبة الكبرى أنهم لا يعلمون ماذا يخسرون، فهم حتى لا يملكون الوقت في ظل ركن الحياة السريع ليتأملوا أنفسهم. ما جرى في الأمس لم يعد يعنيهم، فهو جزء من التاريخ وموغل في القدم. وعندما فقد المكان قيمته، فُقدت معه الكثير من القيم، مثل الوطنية والأخلاقية التي هي بطبيعتها مكانية، إذ إنها نشأت في الحارة والقرية أو الدولة الوطنية، فهي تمثل الثبات والأصالة. ثقافة النص المكتوب استبدلت بها قيم الصورة والخبر العاجل وثقافتهما. إن قيماً يولدها الزمن بسرعة الضوء تزول بسرعة الضوء أيضاً، كالصداقات الافتراضية والحب السريع والمعارف للحظة في زحمة الشبكة العنكبوتية.
لهذا، من الصعب عليّ وفي مثل سني أن اعتاد هذا الواقع، وأنا لن أسعى لأتمثل له قيمياً، لكنّني بالتأكيد سأحاول فهم هذا الواقع الجديد من خارجه دون التورط فيه. وسأسعى إلى فهم وجهات تطوره، فهذه الظاهرة لم تصل حتى الآن إلى منتهاها، ولهذا تنصب اهتماماتي على قراءة الكتب التي تعالجها رغم قناعتي بأنه كُتب عليّ أن أظل غريباً عن هذا العصر. على كل الأحوال، وعلى المستوى الشخصي الأسري، حيث الحقائق والمكونات الأولية لحياتي، أبقى على تواصل مع اليافعين والأطفال من أبناء إخوتي وأخواتي وأستمتع بكل لحظة معهم وأراسلهم ويكتبون لي، وهذا ما دفعني إلى كتابة رواية «سر الزيت» لليافعين.
أنت لست أسيراً سياسياً فقط، بل كاتب قصصي ورسّام أيضاً. هل يمكن أن تشرح لنا عن هذا الجانب من شخصيتك؟
لا أكتبُ إلا لأنني أريد الصمود في الأسر. لم أكتب للإبداع، فغالبية ما كتبته هو رسائل لزوجتي وأشقائي ولأصدقائي، وقد وجد فيها بعض المُبدعين قيمة أدبية. عندما يُدفن جسد تحت أطنان الباطون والحديد والأسلاك الشائكة وأمام هذه الحقيقة المذهلة التي إن بقيت للعين ومعالجات العقل المحض قد تصاب بالجنون. الجنون في واقع مجنون هو قمة العقل. لذلك خيالي العقلي يُنشئ واقعاً آخر يتجاوز أسوار السجن، والكتابة عملية تسلل خارج السجن أحاول أن أمارسها يومياً، وهي نفقي الذي أحفره تحت أسواري حتى أبقى على صلة مع الحياة، حياة الناس وهموم شعبنا وأمتنا العربية. هذا لا يعني أن الكتابة انفصال عن واقعي داخل الأسر، ومن ثمّ بقدر ما هي إنشاء لواقع داخل النص، هي أداة لفهم واقع الأسر وتفكيكه. فالأخير في الواقع تغير كثيراً عما كان خلال العقود الثلاثة الماضية. وغدا التعذيب مركباً حداثياً في الغالب، ناعماً هادئاً متسللاً لا يحمل هراوة. وقد كتبت قبل سنوات كُراسة بعنوان «صهر الوعي وإعادة تعريف التعذيب»، حاولت بها تفسير أنواع التعذيب الحديث في السجون الإسرائيلية، فأشد أصناف التعذيب هو صهر الوعي، وإعادة تشكيل هذه الكتل البشرية عبر أحدث نظريات الهندسة البشرية. الأصعب من ذلك كله هو ألّا تعرف سبب عذابك وألمك، فاليقين حتى لو كان على شكل هراوة، أخف وطأة من اللايقين. ولما أعدت تعريف التعذيب، كان لا بد من إعادة تعريف الألم. فالجسد، جسد الأسير، لم يعد موضوع التعذيب يستهدفه أساساً، بل عقله وروحه.
نصّ الزمن الموازي (الرسالة) الذي كتبته حُوّل إلى مسرحية مُثلت على خشبة مسرح الميدان. ما أبرز الأشياء التي حدثت في الزمن الموازي الخاص بك؟
الأحداث كثيرة، والزمن الذي أمضيته في السجن أطول من الذي أمضيته خارجه، ومن الصعب عليّ أن أشير إلى حدث بعينه على أنه أهم من غيره. لكنّ هناك دروساً وعبراً تعلمتها من حقائق حياة الأسر اليومية والبسيطة. ففي أحد السجون التي عشت فيها، كان معي أسير ضرير وآخر فقد بصره وساقه ويده، وكان علينا أن نخرجهم إلى الباحة الشمسية كل يوم. في البداية، تزاحم الأسرى على إخراجهم وتعاطف الجميع معهم وكانوا رهن إشارتهم، لكن مع مرور الوقت، قلّ عدد الأسرى المتطوعين لهذه المهمة، بل سمعت تأففاً من البعض وتهرباً من هذا الالتزام الذي لا شك في أنه يرافقه جهد جسدي. أذكر أنه عندما التقيت هؤلاء المناضلين المصابين لأول مرة هالني المشهد وهم مقيدون كسائر الأسرى بأيديهم وأرجلهم رغم أنهم فقدوا بصرهم، وفي أدبيات الحركة الوطنية الأسيرة وُضع شعار يلخص النضال داخل الأسر هو الحفاظ على الأسير قيمةً وطنية وأخلاقية حتى لا ينتصر علينا السجان. عندما تصادف مشهداً كهذا، تتأمل هذا الشعار وتسأل نفسك: ما معنى أن ينتصر عليك السجّان؟ قلت لنفسي عندما تعتاد مشهد الضرير والأسير الذي فقد أطرافه وتكفّ عن التأثر والانفعال كما تأثرت أول مرة شاهدته فيها، عندئذ يكون السجان قد انتصر عليك. اعتياد القهر رغم طول السنين أو أن يكف الإنسان عن الفرح لفرح الناس والحزن لحزنهم، معناه أنه ليس فقط فقد قدرته على التضامن والتواصل، بل فقد صلته بالواقع بعدما فقد مشاعره الإنسانية وتمّ ترويضه. وهندسة تبليد المشاعر تجيدها إسرائيل جيداً، والسجن عالم مُصغّر عن العالم. وإسرائيل عندما أغرقت البلد بالدم وملأت السجون بآلاف الأسرى أثناء الانتفاضة الثانية، اعتاد العالم والمشاهدون المشهد، وتبلّدت المشاعر بعد التضخم الذي جرى على عدد الشهداء والجرحى والأسرى.
من الأمور التي حدثت، أنني التقيت خلال هذه العقود الثلاثة جدّ الأسير وابن الأسير وحفيد الأسير، وأحياناً كانوا في الوقت نفسه داخل الأسر. هذا السيناريو تكرر مرات وفي حالات كثيرة، كأن السجون محطة كُتب على الفلسطيني أن يمرّ بها، وكأنها تعميد أو مرحلة طبيعية من المراحل التعليمية مثل الروضة والمدرسة والجامعة، أو ورثة يتوارثها الأحفاد عن الأجداد.
علينا أن نتعامل مع الأسر على أنه فشل في مسيرة النضال وليس محطة ضرورية، وحاولت معالجة توارث الأسر، إن جاز التعبير، في حكاية «سر الزيت»، إذ اختار بطل القصة خياراً آخر غير خيار الأسرى، وبدأ يفكر بأسلوب علمي وأخلاقي في خيارات جيله بعيداً عن السجن.
خلال سنوات قليلة فقط، سَنّ الكنيست عشرات القوانين المتعلقة بالأسرى. هل يمكن أن تتحدث عن أثر تلك القوانين، خاصة التي تستهدف إلغاء كل إنجازات الحركة الأسيرة؟
القوانين الإسرائيلية والإجراءات القمعية ضد الأسرى ليست جديدة. الجديد هو الإطار الأيديولوجي والعقائدي التوراتي الذي اشتدت تأثيراته في مواقف المسؤولين الإسرائيليين، فأصبحنا في السجون نواجهُ العقيدة الدينية؛ إذ إن ما ينطق به الراف (الحاخام) نجده مترجماً لإجراءات نشعر بها في حياتنا. وقد دشن وزير الأمن الداخلي (جلعاد أردان) موقعاً يتواصل به مع جمهوره اليميني، ويقدم هؤلاء مقترحات وطلبات تفصيلية إليه تتصل بتشديد الخناق علينا. ولما كان السياسيون يسعون لإعادة انتخابهم في المواقع المتقدمة في أحزابهم، فإنهم يستجيبون لطلبات قواعدهم في تشديد الخناق على الأسرى.
تصلنا العنصرية الدينية والقومية طاهرة بطهارة العرق الذي ينادون به. ولما كان النص الديني مطلقاً، فإن محاولات حشره في الواقع الدنيوي النسبي وتطبيقه في حالة السجون سيؤدي إلى تفجر الأخيرة. إسرائيل اليوم تعيش العربدة وتأخد بمطلقية النص الديني منتشية على المستويات السياسية والعسكرية كافة، والسجون جزء من هذه الحالة، وهذا يقوّض دولة المؤسسات التي تشكل جزءاً من قوة إسرائيل. أنا لستُ قلقاً من هذه الناحية على الأسرى، فعندما يتدخل وزير ورئيس حكومة في تفاصيل حياة الأسير، فإن هذا يعبّر عن خواء وضعف وتآكل داخلي.
كيف تصف واقع الحركة الأسيرة اليوم داخل السجون؟
الحركة الأسيرة امتداد للحركة الوطنية خارج السجون، والحالة الفلسطينية المنقسمة سياسياً ألقت بظلالها الثقيلة على الحركة الأسيرة، والانقسام الذي طال أمده أنتج اقتصاد الانقسام وثقافته، وهناك تخوّف حقيقي من أن تتحول هذه الثقافة إلى هوية. في النتيجة، هناك واقع أسير منقسم يعبّر عن نفسه بالإضرابات والخطوات النضالية الفصائلية والإضرابات الفردية عن الطعام. لا أخشى على الحركة الأسيرة من القوانين الإسرائيلية، إنما الخطر الحقيقي الذي يُواجه هنا، ومجمل المشروع الوطني، هو الانقسام. في سياق النضال الوطني المشترك، تتبلور القيم الجامعة التي تشكل البنية التحتية للهوية الوطنية، وعندما تصبح هناك في ظل الانقسام مشاريع وطنية، وليس مشروعاً وطنياً، لا يفرز هذا النضال قيماً جامعة، بل تتعزز قيم الفصيل، وتتفكك الهوية حتى لو بقينا نأكل جميعاً المقلوبة وندبك الدبكة نفسها. الحركة الأسيرة كانت المعقل الأخير لإنتاج مثل هذه القيم، وللأسف في السنوات الأخيرة لم يعُد نضالها مشتركاً، وهناك تهديد لمركباتها. من لا يفهم هذا الأمر، ومن لا يُعجل في إنهاء الانقسام، لا يفهم ما جرى في العالم العربي من انعاش للانتماءات الأولية، وللعصبويات القبلية والطائفية، حيث ينهار المجتمع والدولة معاً.
هل أنتم راضون عن التحركات الشعبية المناصرة لكم؟
التحرك الشعبي لدعم الأسرى ضعيف للأسباب التي ذكرتها، وإذا كان هناك تحركات جامعة، فهم من القلة القليلة ممن يؤمنون بأنه لن تقوم لنا قائمة إلا بوحدتنا.
ربما واحدة من أهم المحطات المفصليّة والتاريخية في قضية فلسطين توقيع اتفاقية أوسلو. كيف تقيّم هذه الاتفاقية، ولماذا أسرى «الـ48» استثنوا من ذلك الحين من الصفقات؟
«أوسلو» جزّأت الشعب الفلسطيني، ثم كان من الطبيعي أن تجزئ الأسرى، فمن يتحدث عن دولة في الضفة وليس وطناً، يتنازل تلقائياً، حتى لو ادعى غير ذلك، عن روايته التاريخية المؤسسة للهوية وللشعب الفلسطيني، وأهم مكوّناتها النكبة ورواية اللجوء.
أسرى الداخل كانوا جزءاً من «منظمة التحرير» وفصائلها. كانت هذه المنظمة ترى نفسها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بمن فيهم فلسطينيو الـ48، ثم عندما كفّت عن تمثيلهم، لم يعد أسرى الداخل الذين كانوا جزءاً من قضية، جزءاً من الحل. هذا أقل ما يقال عنه أنه مؤسف، فكل قائد من القيادات التي عادت إلى فلسطين، وليس فقط من وقّع على الاتفاقية، من دون استثناء، كرّسنا في الأسر لعقود. لا أريد أن أصف ذلك بغير الأخلاقي أو بأوصاف أخرى، بل سأتركه لشعبنا وللتاريخ لكي يحاكم هذه القيادة.
من استفاد من صفقات التبادل التي قبلت استثناءنا، إنما استدخل على عقليته وفهمه السياسي مناخات صنعتها أوسلو، حتى لو ادعى أنه يملك برنامجاً سياسياً مغايراً بعدما دخل مسارها (الاتفاقية) السياسي ترشيحاً وانتخاباً ثم صراعاً على السلطة.
الشباب والشابات الذين ينفذون اليوم عمليات فدائية هم الجيل الذي ولد بعد «أوسلو». كيف تصف هؤلاء الذين لم ييأسوا بعد؟
المسألة ليست مسألة يأس أو تفاؤل، وهذه الظاهرة تستحق الدراسة المعمقة والقراءة الجادّة بعيداً عن الانفعال والتوظيف الفصائلي في ظل الانقسام، فهي تؤكد أن شعبنا شعب حي يرفض الذل، حتى لو كانت قواه السياسية منقسمة وفي أسوأ حالاتها، وأن هذا الشعب لديه طاقات واستعداداً للتضحية. يجب أن ننتبه إلى أن عدداً كبيراً من هؤلاء الشبان أعلنوا رفضهم أن ينسبوا إلى أي فصيل. فهم صوتوا بأجسادهم لرفض الحالة السياسة الفلسطينية بقدر رفضهم للاحتلال.
منذ 1984 الذي اعتقلت فيه، كان جيش العدو لا يزال يحتل جنوب لبنان. اليوم، بعد 2000 و2006، ليس الجنوب محرراً بسواعد أهله ومقاوميه فقط، بل شوكة إسرائيل مكسورة، وجيشها مقهور ويفتقر إلى المبادرة والإرادة والعقيدة. لماذا منذ 71 عاماً لم تستطع المقاومة الفلسطينية تحرير حتى شبر واحد من فلسطين (باستثناء الانسحاب الأحادي من غزة نتيجة «عدم جدوى البقاء» نظراً إلى ارتفاع كلفته على الجيش الإسرائيلي)؟
منذ محمد علي باشا في مصر ونحن منشغلون في السؤال: لماذا ينتصرون ونحن نُهزم. اعتقدوا تارة أن سرّ قوة الغرب هو الإصلاح الزراعي، وتارة أخرى الاقتصادي، وأخرى امتلاك أسطول بحري من شأنه أن يضعنا في مصافّ الأمم القوية. أخيراً (في ذلك الوقت) أُرسِلَت مجموعة من العلماء إلى فرنسا لجلب العلم الذي يعتقدون أنه الأساس وسرّ قوة هذا الغرب الذي استعمر بلادنا لزمن طويل. اليوم ما زلنا نبحث ولم نتمكن خلال القرن العشرين من الإجابة عن هذا السؤال، بينما استطاعت الحركة الصهيونية أن تُجيب نظرياً وعملياً، وبقينا نناقش ولا نزال، وبعضنا يرى أن الإسلام هو الحل، والآخر الاشتراكية... والوحدة والعودة. الجدل رغم أهميته ليس بديلاً ممّا هو أساسي: بناء القدرة. لقد بنت الحركة الصهيونية قدرتها من قبل النكبة، وأنشأت الجامعة العبرية في القدس ، والتخنيون في حيفا، ومحطة توليد الكهرباء «الريدنغ» في عشرينيات القرن الماضي، وامتلكت الحصة الأكبر من معامل الفوسفات في البحر الميت. بكلمات أخرى: أرادت الصهيونية أن تنهض في حلقات السلسلة الاقتصادية والعلمية السياسية كافة ثم العسكرية.
وبينما كنّا نناقش منقسمين، وأقصد مثقفينا ونخبنا السياسية، بين من يقول بحاجات الروح والقلب أو بحاجات العقل والجسد، كانت الصهيونية فلسفياً، رغم علمانيتها المعلنة، تجري مصالحة بين قول العقل وقول الروح، جامعة بين الشيوعي والقومي، وبين العلماني والمتديّن الحريدي، في إطار دولة المؤسسات. كل هذا لأنها أدركت باكراً أنه يستحيل إنتاج القدرة إن لم يحوّل الاختلاف من طاقة هدم وتحارُب إلى طاقة بناء؛ فاستفادت من تعدديتها، لكنها في هذه الوصفة أيضاً زرعت بذور تفككها وخرابها عندما أقامتها على أساس عرقي ورابطة الدم.
ما يهمنا من هذه المقاربة هو مستقبلنا، العرب، ومستقبل القضية الفلسطينة. لقد استخدمت في سؤالك كلمة الانسحاب، وهي كلمة من القاموس العسكري، وبذلك السؤال يتضمن نظرية خفيّة بأن المقاومة عسكرية فقط، والحقيقة أننا نحتاج مقاومة شاملة لأننا نواجه ليس احتلالاً شاملاً، بل شمولياً بكل ما تعنيه الكلمة من تفاصيل، بل يطاول أدق تفاصيل حياتنا في فلسطين. إن ما يمكنه أن يبدد أو يحوّل مركبات القوة العربية إلى قدرة شاملة هو النظام السياسي، وديموقراطية هذا النظام هي أهم توازن استراتيجي قد ينشئه العرب في مواجهة قضاياهم الداخلية والصهيونية؛ الحرية كقيمة وكممارسة قادرة على تفجير طاقات الأفراد والجماعات وإبداعاتهم، وهم يُعيدون بها إنتاج هويتهم. الهوية ليست معطى ثابتاً، بل تحتاج إلى شحن وإعادة تعريف وصولاً إلى المواطنة. أرى علاقة مباشرة بين أجر المعلم في الدول العربية وحجم ميزانيات الأبحاث في الجامعات ومستوى المعيشة، وبين تحرير فلسطين. هنا شعوب غير قادرة على توفير لقمة العيش لن تفكر في فلسطين ولا في غيرها، وأنظمة سياسية لا تحمل أعباء الناس وهمومهم اليومية لن تكون قادرة على تجنيدهم لحمل الهم القومي. لقد امتلكت آلهة الشمس اليابانية السيف والجوهرة والمرآة وطالما سألت نفسي: لماذا المرآة؟ فإذا كان السيف هو القوة العسكرية، والجوهرة الاقتصادية، فإن القوة العلمية يجب أن تكون الكتاب. هذا البلد الذي نهض من تحت ركام هيروشيما وناغازاكي، وأعاد إنتاج نفسه أمةً قوية بجانب الأمم الأخرى، أدرك أن معرفة النفس بقوتها وضعفها أهم معرفة لإعادة إنتاج المعرفة. وفي حالتنا، يمكن أن تعرف من الكتاب، لكن أمة لا تعرف نفسها ستبقى ميّتة، ولن تتمكن من إنتاج معرفة جديدة وستبقى مستهلكة. نحن لسنا بحاجة إلى آلهة الشمس اليابانية لفهم هذه الحقيقة، فجهاد النفس أهم جهاد يمكن أن نخوضه حتى نصبح أمة قادرة. نحن بحاجة إلى مرآة صادقة في إعلامنا وجامعاتنا ومدارسنا لتقول الحقيقة عن أنفسنا لأنفسنا.
المصدر "جريدة الأخبار"