لعلّ احتجاز الاحتلال لجثامين الشهداء هو التجلّي الأكثر وضوحًا لقبح هذا الاحتلال، ومدى وحشيته، وتحلّله من كل قيمة بشرية، أو معنى للإنسانية، بل وابتداعه لأدواتٍ ومسلكيات وسياسات خاصة لانتهاك كل هذا، لسحق الإنسان، لسحق الروح، والجسد، والهوية، بمعانيها الفردية والجماعية.
احتجازُ الاحتلال لجثمان الشهيد محمد عبيد، يُذكّر بمواصلة الاحتلال احتجاز أكثر من ٤٥ جثمانًا لشهداءٍ فلسطينيين، ويُنبّه الذاكرة الحيّة لشعب فلسطين ولكل من تمسك بإنسانيته في هذا العالم، بمعنى وجود الكيان الصهيوني في هذه المنطقة.
فمنذ قدوم العصابات الصهيونية لأرض فلسطين، لم تحاول السيطرة على الأرض فحسب، أو طرد سكانها وإحلال المستوطنين مكانهم؛ بل سعت بوضوحٍ لإبادة كل أثر مادي ومعنوي لوجودهم، لحياتهم ومماتهم ودورهم في هذه الأرض، وجاء تعامل الاحتلال مع جثامين الشهداء تارةً بالتنكيل وتارة أخرى بالاحتجاز في الثلاجات ومقابر الارقام؛ كجزءٍ من هذا الهوس بإنهاء كل ما هو فلسطيني، وحين يعجز المحتل عن إسكات روح المقاومة لدى ضحاياه الفلسطينين، يسعى للانتقام من الأجساد، ومن الأهل ومن الذاكرة.
منذ قتل الاحتلال للشهيد عبيد، قام باعتقال أكثر من ١٩ شخصًا من عائلته ومحيطه الاجتماعي، بجانب تنكيله الوحشي بأهالي حيّ العيسوية في القدس المحتلة، والذي أصيب فيه أكثر من ٨٠ فلسطينيًا، مُحوّلًا الحي وبيوته إلى ما يشبه ساحة حرب، حرب من طرف واحد شنها الاحتلال وزج فيها بقواته العسكرية، في مواجهة سكان عُزَّل، يرفضون الذل والقتل و الاحتلال، جريمة الاحتلال هذه لم تكن استثناءًا؛ بل هي جزء من برنامجه المتواصل للتنكيل بكل ما هو فلسطيني، لا لشيء إلا لأن أهالي هذا الحي المقدسي كما كل أهل فلسطين رفضوا الإذعان لبطشه وجبروته، ولأن جرائمه لا ولن تمر دون رد فعل من أهل فلسطين ومن كل حر في هذا العالم.
تقف مراسم تشييع الشهداء وتكريمهم الشعبي والوطني الفلسطيني، كعدوٍ وخصم أساسي أمام الجلاد الصهيوني، من خلال تبلور معالمها كسلوك ومظهر اجتماعي وسياسي رافض لجريمة القتل، ولوجود الاحتلال، ولعدوانه، وإصرار على رسالة الشهيد، وكذلك يفعل ضريح الشهيد، كأحد معالم التضحية والفداء، وكذكرى لانغراسهم روحًا وجسدًا في أرض فلسطين، واستحالة اقتلاعهم منها. الاحتلال يحاول فعل هذا المستحيل فحسب، رغم إدراكه التام لذلك، ولكنه يستمر في المحاولة كأي جلاد لا يرى قدرة أو حولًا لشيء في هذا العالم إلا غطرسة قوته.
الدرسُ الذي لقنه شعبنا للاحتلال ألف مرة، هو أن العسف والقهر والقتل والطغيان، لن يسعفه، ولن يُخضِع هذا الشعب. يبدو أن الاحتلال يصر على عدم تعلمه أو إدراكه، وهو ما يقود لضرورة تكرار الدرس، ربما بطريقة أوسع وأشمل وأعمق، وأكثر قوة وعنفًا.
ولعل المعركة اليوم تقوم على هذا بالذات، على إصرارنا على البقاء ولو جثامين تنغرس في هذه الأرض وترفض طمس هويتها، وتؤكد للمحتل استحالة بقائه فيها، حتى لو عدمَنا كل أسباب القوة المادية.