بداية يمكن القول أن ما تضمنته الدراسة المقدمة من الأسير وائل الجاغوب، فيما يتعلق بأزمة اليسار البنيوية، ببعديها الذاتي والموضوعي، هي بمثابة مساهمة نوعية وعميقة وأساسية يمكن البناء عليها وعلى مجموعة التوصيات التي خلصت إليها الدراسة، إذا ما توافرت الإرادة لدى القوى اليسارية لتجاوز أزمتها على الأقل في شقها الذاتي.
طرحت الدراسة رؤية هامة في إطار محاولتها لرسم خارطة طريق لليسار لتجاوز أزمته، إلا أن هذا لا يلغي وجود بعض الملاحظات، سواء للتأكيد على ما تقدمت به الدراسة، أو للتوضيح، أو في إطار التباين المعرفي لوجهات النظر حول القضية المثارة، وفي كل الأحوال فإن مجمل هذه الملاحظات تأتي في إطار إغناء الورقة وإثرائها معرفيًا، وذلك بهدف إثارة نقاش موضوعي حول مضمون الورقة وما تضمنته من أزمة اليسار وسبل النهوض به.
تناولت مقدمة الورقة إسهامات اليسار على مدار سنوات الاشتباك مع المشروع الاستيطاني الصهيوني، وهذا موضوعيًا صحيح، إلا أن ذلك وفقًا لما أورده الباحث لم يبنَ على برامج مطلبية واجتماعية ملتصقة بالجماهير الكادحة، وإنما بُني على مواقف القوى اليسارية الجذرية من الصراع، والذي للأسف لم يستمر بجذريته، وتجاوز الأيديولوجيا عندما قدمت بعض القوى اليسارية رؤيتها للبرنامج المرحلي والذي أسس فيما بعد لمشروع التسوية السياسية.
نجحت الورقة في تحليل واقع اليسار وأزمته، والتأكيد على ضرورة إعادة تعريف اليسار لذاته، إذ عززت فرضية الورقة الأساسية هذا الاتجاه عندما ذهبت إلي لقراءة أثر أزمة اليسار كمحدد أساسي وحاسم في تعميق أزمته أو تجاوزها، دون إغفال الظروف الموضوعية باعتبارها عاملًا محددًا وأساسيًا ولكنها ليست حاسمة.
وفق الباحث في تركيزه داخل الإطار المفاهيمي على تعريف الحزب باعتباره أداة سياسية وأيديولوجية تعبر عن الطبقات الكادحة، باعتباره أي التعريف هامًا وأساسيًا في السياق العام، لكنه يغض الطرف عن الميوعة والسيولة الطبقية في الواقع العربي الذي يقوم على الاقتصاد الريعي غير المُنتج، ولم تتبلور فيه الطبقات كما حددتها الماركسية، والتي تشترط نضوج المجتمع الرأسمالي، وذلك كونه لم يحمل خواص التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية الحديثة (الرأسمالية)، ولم يتخلَ عن سمات التشكيل الاقتصادي والاجتماعي الإقطاعي، وهو ما أدى إلى بقاء القوى اليسارية العربية تحمل شعاراتيًا، وليس بالممارسة "صعود البروليتاريا ككوادر أساسية في الحزب، مما أدى إلى هيمنة قيادة من (البرجوازية الوطنية) على هيئات الأحزاب اليسارية العربية، والسيطرة عليها. وحل شعار الانحياز الطبقي لمصالح الطبقات المهمشة مكان الشعار الذي يدعم صعود الكادحين إلي دفة القيادة، مما انعكس لاحقًا على فهم اليسار للكتلة التاريخية التي لم تتبلور كما حددها جرامشي، ولم يساهم اليسار في تبيئة مفهومها.
أدى طول أمد الصراع مع العدو الصهيوني، وتجذر المواقف بمضامينها الوطنية والنضالية التحررية، إلي تغييب قصري للدور المطلبي والمجتمعي لقوى اليسار، وهو ما أثر تدريجيًا على قوة حضور الأيديولوجيا كمحدد في بناء التحالفات وتشكيل أو إعادة تشكل الحزب اليساري، والذي ساهم بدوره في تكلس البيئة التنظيمية لدرجة أفقدته دينامية التمثيل الطبقي الذي تمسك به اليسار كمبرر لوجوده وحوامله الجماهيرية منذ تأسيسه، وأدى أيضًا إلي تغييب تدريجي لمركزية الأيديولوجيا كمتطلب للانتماء والاستقطاب الحزبي.
أتاحت أزمة اليسار الذاتية والضعف التدريجي له، والتغييب الأيديولوجي، الفرصة المضادة للثورة أن تغيّب مفاهيم الحزب والثورة والتمثيل واستبدالها بمفاهيم ليبرالية، كالديمقراطية والبرامج التمثيلية والتعبير عن المصالح، وهو ما تناولته الورقة ووجب التأكيد عليه لأهميته.
نجح الباحث في تقديم تحليل نوعي في ورقته عندما تناول تطور النظام الرأسمالي وتغوله، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، بالإضافة إلي تعزيز الطائفية والصراعات المذهبية والاثنية في المنطقة العربية، مما أسس لضرورة أن ينظر اليسار إلى أزمته من منظور عربي قومي وليس حزبي وطني، حيث لم يعد بإمكان اليسار أن يتجاوز أزمته الحزبية دون إعادة تعريفه لذاته على المستوى القومي العربي، وبناء البرامج والتحالفات استنادًا على الأيديولوجيا المعبرة عن مصالح الفئات الاجتماعية المهمشة، وهذا يستدعي بالضرورة إعادة تعريف الكتلة التاريخية التي يفترض أن تشكل حاملًا لمشروع اليسار العربي.
يضاف إلى ذلك تغلغل مفاهيم الليبرالية، والليبرالية الجديدة إلي بنى الأحزاب اليسارية وهيمنتها على الخطاب كما أوضح الباحث، وهذا صحيح بالمعنى النسبي والشكلي.
من الناحية الموضوعية هناك أزمة بنيوية تتعلق بتعاطي وتفاعل النخب العربية مع مفاهيم الحداثة دون إعادة تعريفها أو قراءتها وفقًا للسياق والظروف البيئية العربية، وهذا بحكم التبعية، ومن الأهمية الإشارة إلي الواقع العربي الذي لم ينجح بتعزيز مشروعه الذي انطلق مع بدايات مراحل التحرر من الاستعمار المباشر ورفع شعار "التحول نحو الإشتراكية"، إلا أنه ومع صعود موجة الليبرالية الجديدة تحول الشعار نحو "التحول إلي الديمقراطية"، وهو الشعار الذي تبنته القوى اليسارية للأسف.
وفي الحالتين بقي اليسار أسير رؤية القوى المهيمنة والاستعمارية وبعيدًا عن خصوصية الواقع العربية ومتطلبات نهوضه، ما يجعلنا نستشرف فشل التحول نحو الديمقراطية التي تستجيب لخصوصية الواقع العربي وتساهم بتنميته وتعزيز سيطرته على موارده.
بالعودة إلى العامل الذاتي مهم إعادة التأكيد على أهمية أن يعيد اليسار العربي تعريف ذاته ويعيد الاعتبار للأيديولوجيا كمحدد أساسي للاستقطاب وبناء التحالفات وصياغة البرامج على المستويين السياسي والكفاحي وأيضًا الاجتماعي والمطلبي باعتبار أن العلاقة بينهما جدلية. وبما أن الواقع العربي الاقتصادي إشكالي ومشوه، لم يرتقِ لتشكله وفقًا للنظام الرأسمالي، ولم يعد واقعًا إقطاعيًا، فعلى قوى اليسار أن تعيد فهم السياق وتحدد الكتلة التاريخية التي ستبني عليها مشروعها، وهذا يتطلب إعادة الاعتبار للأطر الجماهيرية المحيطة بالحزب، وفي القلب منها اتحاد العمال والمهن والاتحادات الطلابية، على أن تعيد تعزيز العلاقة وتصحيحها مع هذه الأطر باعتبارها أداة استقطاب ونضال تبني برامجها على مستوى عربي قومي، وليس حزبي وطني، ومنحازة بالأساس إلى الفئات الأكثر تهميشًا وفقرًا. كما أن على قيادة الأحزاب اليسارية تجاوز وعيها المتكيف مع الواقع ويفترض ديمومة الأزمة، ما يجعلها تتعايش معها وتخلق مبررات تتعلق بصعوبة الظرف الموضوعي وتحول دون وحدة قوى اليسار.
تطرق الباحث إلى أهمية الموازنة داخل الحزب بين الفرد والجماعة، وهذا مهم لكن مع الحذر بأن ذلك قد يساهم بمزيد من الاختراق للحزب، وإدخال مصطلحات ليبرالية تعزز الفرد داخل الإطار التنظيمي؛ فالمطلوب إعادة تعريف اليسار لمفهوم المركزية الديمقراطية باتجاه مزيد من المساحة لتأثير الفرد، لكن دون التحول نحو الليبرالية، وأيضًا تجاوز المركزية البيروقراطية، وهذا لن يتأتى دون إعادة الاعتبار والتوازن للأطر الجماهيرية المعبرة عن مصالح القطاعات الاجتماعية المختلفة، وتدفع بقياداتها داخل الأطر الحزبية لتعبر عن مصالح هذه الفئات والقطاعات.
أكد الباحث في ختام الورقة على النتيجة الأهم، وهي نصًا كما أوردته الورقة نقلًا عن حسن زوادته (...اليسار الفلسطيني لم يخض حتى الآن معركة فعلية دفاعًا عن مصالح الفئات الشعبية وفي مواجهة سياسات السلطة في الضفة وقطاع غزة الاقتصادية والاجتماعية، ولم يقم بدور فاعل على صعيد معالجة الانقسام السياسي والتجزئة السياسية والاجتماعية). وهذا ما أفقد ولا يزال اليسار قاعدته وموطئ حضوره وفعله، وذلك ناتج عن تغييب الأيديولوجيا كمحدد أساسي ورئيسي في بناء التحالفات وصياغة البرامج لقوى اليسار العربي والفلسطيني.