Menu

حوارمهند أبو غوش للهدف: انتصارُنا الوحيد كشعب أننا بقينا رغم كل مصائبنا شعبًا واحدًا

أجرى الحوار: أحمد جابر ووسام الفقعاوي

لا يحبُ مهند أبو غوش أن يوصف بالكاتب أو الفنان، وهو على شهرته وسخريته اللاذعة مولعٌ بنكران الذات، يرى أن ثمة ما هو أهم من ذواتنا للاهتمام به، ورغم اعتقاله مراتٍ ومرات، ودوره المهم المؤثر الذي يخجل هو من الكلام عنه إلا أن مهند أبو غوش، لا يتحدث عن نفسه إلا ليذكرَ الآخرين، من رفاق دربه من استشهد ومن سجن، وبالتالي فإن هذا اللقاء مع مهند أبو غوش يستهدف القضايا الأهم، لأنه لايريد التركيز عليه، كونه أصلاً جزء من هذه القضايا التي يحملها على كتفيه، والتي يمكن تلخيصها ببساطةٍ بفكرة فلسطين الحرة من النهر إلى البحر بدون سنتيمتر ناقص واحد، وشعب فلسطيني موحد لا تفصل بينه سلطةٌ احتلال أو سلطةُ حكمٍ ذاتي أو غربةُ لجوءٍ قسري.

اعتقل مهند في مرته الأخيرة ضمن الحملة المسعورة التي يشنها الشاباك الصهيوني بتهمٍ جديرةٍ بشغل بال هذا الجهاز القمعي، الأداة الأكثر بشاعةً ربما للاحتلال، تهمة "التواصل مع عميلٍ أجنبي" التي هي بمقدار تفاهتها تشي بالتوتر القاتل الذي يعيشه الأمن الصهيوني، لأن تواصلنا ووحدتنا ووقوفنا معاً جميعاً على سراط مقاومة المحتل وأذنابه جدير حقاً بزلزلة كيان هذا المحتل ومن تبعه.

مهند أبو غوش، ناشطٌ فلسطينيٌ، ومدونٌ بارز، له رواية وحيدة "الكحل يسيل من النافذة- دار الآداب" دية "ومناضل دائم، اعتقل مراتٍ لا نعرفها حقاً، وله في كل ميدانً صوتٌ وكلمة دائماً يبحث عن "صواب قلوبنا: الذي يجب أن نتبع.

* تجربة الاعتقال متكررة، واعتيادية، سواء لمهند أو بشكل عام، ولكن يقال أن ثمة جديدٍ في كل مرة، يكتشفه السجين بخصوص السجن والسجان.. ماذا تقول عن تجربتك الأخيرة ما من تجربة اعتقال اعتيادية، مهما تكررت التجربة؟

** تكرار مرات الاعتقال، خصوصا من جهازٍ أمنيٍ يعمل دوماً على التعلم من أخطائه، يحول كل تجربةٍ إلى تحدٍّ جديد، ورغم هذا أود الإشارة إلى أمرٍ مهم: اعتقالي استمر لأقل من شهر، مؤسف أن اهتماماً إعلاميا قد انصب على قضية اعتقالي أنا بالذات، بالتزامن مع معتقلٍ آخر كان في زنزانةٍ تبعد عني بضعة أمتار وهو مضرب عن الطعام لمدة ثلاثين يوما، وهو الأسير البطل بسام ذياب، حين خرجت صدمت من حجم التضامن، في الوقت الذي يُنسى فيه آخرون، أتساءل عن الاستثنائي خارج السجن، لا في السجن نفسه، ما الذي يدفع الناس إلى الاهتمام بإنسانٍ يعتقل لبضعة أسابيع ويخرج، وينسى تماماً اسم معتقلين آخرين لهم هم أيضاً أمهات وحبيبات وأطفال، أكاد أجزم أن جزءاً من الاهتمام بقضيتي متصلٌ بلون بطاقة هويّتي، وهو اللون الذي أرفضه أنا، إن كنا نتحدث عن فلسطين واحدة وشعب واحد، فإن علينا قبل التحدث عن ظروف الاعتقال وعن السجان أن ننظر في مرآة أنفسنا ونراجع أنفسنا، السؤال هنا هو دائماً: ما الذي يمكن لنا أن نفعله لكي نتأكدَ من صواب قلوبنا حين نتحدث عن فلسطين واحدة، ونخفق في التعامل مع الفلسطينيين بوصفهم مستحقين لذات العناية؟

* ثمة دائماً ما يقال عن وضع الأسرى وظروفهم، التقصير معروف سياسياً ولكن كأشخاص أو كمجتمع ماذا يمكن أن نفعل أكثر؟

** هنا يمكن لي أن أجيب على السؤال الأول: أظن أن أهم ما يجب فعله للأسرى هو تغطية ظهورهم المكشوفة: الاهتمام بعائلاتهم، أحياناً يكون المطلوب هو أن يدخل سجينٌ ما، معصوب العينين، بعد اقتياده من زنزانته إلى غرفة التحقيق، وهو متأكد تماماً أن طفله أو زوجته محميّان، وأن هنالك من يهتم بهما.

* حملة الاعتقال الواسعة التي قام بها الشاباك.. كيف تفسرها، كناشطٍ ومنخرطٍ في الشأن العام إضافةً إلى كونك أحد ضحاياها؟

** لنتأمل في أداء جهاز الشاباك منذ انتفاضة 2015: لا نجاحات تذكر، وهذا ما دفعه إلى معارك دونكيشوتية مضحكة، أتذكر أن ضابطاً في جهاز الشاباك قد دخل باسمٍ مستعارٍ إلى ندوة فيديو يشارك فيها الرفيق عبد اللطيف غيث، وقال بلغته العربية المكسرة بعد أن سُمح له بالحديث، بأن جهاز الشاباك يتابع المناضل غيث عن كثب إلى هنا، إذا، انحدر سقف انتصارات الشاباك: لقد تمكّن الجهاز من الضغط على وصلةٍ إنترنتية معروضة على الجميع، لندوةٍ تبث على العموم، ليبثّ تهديداً فارغاً، في حادثةٍ أخرى منفصلة، قام جهاز الشاباك بتسجيل محادثةٍ هاتفيةٍ حين اتصل ليهددَ شخصاً لبنانياً يتهمه، لأنه تزوج من فلسطينية، بتجنيد الفلسطينيين للعمل الفدائي، ثم قام الشاباك بتوزيع التسجيل الصوتي على الصحافة العبرية التي احتفت بطول يد المخابرات، الواحد، في الحقيقة، صار يضرب كفاً بكف، حزناً على مآلات الشين بيت،  السؤال هنا هو ما الذي يجب علينا أن نفعله لكي يرتقي الشاباك من القاع الذي غرق فيه، لنحظى بغريمٍ يستحقّ هذا، إلا إذا كان الشاباك يريد أن يغتالنا جميعا بسلاحٍ جديد هو الموت من الملل. بخصوص حملة الشاباك: لا أظنها تخرج عن هذا السياق، هؤلاء يبحثون عن نصر ما، أي نصر، وبأي ثمن، حتى لو كان ذلك الثمن يتمثل في ظهورهم بمظهر المهرج.

* هل تجد علاقةً بين الحملة الاعتقالية والتطبيع الرسمي العربي؟ هل هذا له علاقة بضبط قنوات الاتصال في خدمة المطبعين خصوصاً أن التهم تم توجيهها تتناقض مع مزاعم المطبعين؟

 ** العلاقة التي أفهمها بين التطبيع الرسمي للأنظمة مع إسرائيل والتهم الموجهة للمعتقلين في هذه الحملة هو أن من يجب توجيه لائحة اتهامٍ له بـ"التواصل مع عميلٍ أجنبي" هم من يطبّعون من خارج فلسطين، ومن ينسّقون أمنياً من داخلها، نحن نتواصل مع لحمنا ودمنا في الشتات، أما من يتصلون بالعميل الأجنبي فعناوينهم معروفة في عواصم الأنظمة وفي رام الله.

*  التواصل مع فلسطين، والتواصل بين العرب والفلسطينيين وبالعكس، لماذا يقلق دولة الاحتلال؟ وكيف يمكن أن تؤثر صداقةٌ عادية أو ودٌ يسريٌ في أوصال الجغرافيا متجاوزاً حواجز الاحتلال وسجون الأنظمة على طموحات هؤلاء وخططهم..؟ هل (المتواصلون) خطيرون لهذه الدرجة؟

** إسرائيل قلقةٌ تماماً من الاختراق الأمني، صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي توفر فرصةً هائلةً للشين بيت لجمع معلوماتٍ هائلةٍ عن الفلسطينيين، لكن هذه الوسائل أيضاً تمثل تهديداً غير مسبوق لأمن "إسرائيل"، لا أظن أن "الشاباك" شاعري بما يكفي لكي يشعر بالقلق من الأحاديث الودودة على مسنجر فيسبوك، الشاباك مهووس أمنياً، هذه هي وظيفته، وهذا ما يقوم به في هذه المرحلة: إنه يشتبه في كل شيء، لأن عليه أن يشتبه في أي شيء، دورنا نحن يتمثل في فرض الوقائع على الأرض، يجب علينا أن لا نجعل خوفنا من الجهاز المصاب باضطرابٍ عصابيٍ يردعنا عن مد أيدينا إلى أهلنا وأبناء شعبنا خارج فلسطين.

* هل تعتقد أن التواصل الذي نتحدث عنه قد يشكل نوعاً من أرضيةٍ أو بنيةٍ لفعل ما يعيد المعنى الحقيقي لفكرة وحدة العرب وعروبة فلسطيني وفلسطينية العرب؟

 ** بالطبع. هذا التواصل نفسه شكّل ذخيرتنا الأساسية في حركة مقاطعة انتخابات الكنيست الصهيوني خلال الفترة السابقة، فجأة صار لدينا، نحن الداعين للمقاطعة، سلاحٌ أقوى، يتمثل في إشراك فلسطينيي الـ 67 والشتات في مطالبة إخوانهم بمقاطعة انتخابات الكنيست، مثلاً انهالت علينا فيديوهاتٌ من فلسطينيين من شتى أرجاء العالم تطالب الفلسطينيين بعدم المشاركة، هذا بحد ذاته إشراك للفلسطيني في قول كلمته في فلسطين نفسها، وإن كان هذا يخدش الأعصاب المكشوفة للجهاز الأمني العصابي، فهذا ممتاز، تمكنّا على مدار الدورات الانتخابية الثلاثة للكنيست من إحراج القائمة المشتركة التي لم يعد بإمكانها العزف على فكرة "وحدة الشعب" في الكنيست، لأن الناس قد اكتشفوا أن الشعب موجود أيضاً في القدس وفي مخيمي البدّاوي والوحدات، هذا، إلا إذا كانت القائمة المشتركة تقصد بالوحدة: الشعور بالانعزال لا توحيد الشعب.

 * كحيفاوي ومقدسي ما الذي لك في بيروت أو تونس أو القاهرة أو مراكش.. ما الرسالة التي تريد أن توجهها لشباب هذه المدن وغيرها وأنت أحد المنخرطين في همومهم عبد الرسم والتدوين والتواصل المباشر؟

 ** علينا أن نعترف بأن انتصارنا الوحيد، كشعب، وسط كل هذه الهزائم التي تنهال على رؤوسنا بلا توقف، يتمثل في أننا بقينا شعباً واحداً، هذا إنجاز دفعنا ثمنه دماً كثيراً، لقد انبثق شعب فلسطين وتلاحم رغم المجازر والترحيل وتعدد ألوان بطاقات الهوية، في عزّ المأساة، الدم في جرش في أيلول الأسود، الدم في بيروت 82، الدم في جنين 2001، الدم في غزّة عبر ثلاثة حروب مكّن هذه الهوية من الصمود، نقف أمام هذا الثمن الهائل والمريع ، وهو الدم المدفوع لقاء فكرةٍ واحدة، هي فكرة وحدة الجماعة البشرية التي اسمها شعب فلسطين، وندرك أن علينا أن نحافظ على وحدة الشعب، ونقل تجارب المواقع المختلفة، وإرفاد هذا الإصرار على البقاء كتلة واحدة عصية على التقسيم والتجزئة والنفي بالإبقاء على خطوط اتصالنا مفتوحة مع أبناء شعبنا، حتى وإن تسبب الأمر بالضيق لضابط شاباكٍ يشعر بالملل في مكتبه.

* نحن مقبلون على انتخابات الكنيست وأنت أحد أبرز مناهضيها، وحراك حيفا له دور هام في الحشد والتعبئة والتنظير ضد هذه الانتخابات.. مرة أخرى نريد أن نعرف منك: لماذا يجب مقاطعة هذه الانتخابات؟ وما الذي يجب قوله للمنخرطين فيها؟ كيف نشرح لهم مدى الأذى الذي يسببونه لنا؟

** أولا: نحن مقبلون على انتخابات كنيست وانتخابات مجلس أوسلو التشريعي معا: في رأيي يجب مقاطعة الانتخابات للمجلسين معا، هنالك برلمانيان اثنان يطالب الفلسطينيين الباقين على تراب فلسطين بالتصويت لهما، أحدهما فاقد للصلاحية بحكم الأمر الواقع، ومكرس لإدارة شؤون التشريع في بانتستونات مجزأة، والآخر يتم توظيف مشاركة الفلسطيني فيه من أجل تغطية عورة إسرائيل بوصفها مستوطنة كبرى مؤسسة على الأبارتهايد، ثانياً: أقول للفلسطينيين المنخرطين في انتخابات الكنيست والتشريعي، معاً، إن فلسطين غير موجودة في أروقة البرلمان، مهما بحثتم عنها لن تجدوها هناك. فلسطين التي نبحث عنها موجودة في الأرض التي يجثم على صدرها هذا البرلمان.

 * موضوع الكنيست والتمثيل السياسي يفتح الباب على واقع الحالة الحزبية والسياسية في الداخل كيف يمكن أن تعادَ صياغة مشروعٍ وطنيٍ متكاملٍ في ظل حالةٍ حزبيةٍ راهنةٍ تتسابق (نسبياً) إلى الكنيست) ولا نراها تتسابق لحل مشكلات المجتمع الفلسطيني وتمثيله حقاً؟

** نحن نرى أن مشاركة أحزاب الكنيست في الكنيست قد أضرت بالعمل الجماهيري في فلسطين المحتلة سنة 48، لقد كرّست هذه الانتخابات، على الأرض، ممارساتٍ انتفاعيةً ومصالحيةً وفتحت الباب على مصراعيه للأسرلة، ولعزل فلسطينيي 48 عن إخوانهم في سائر فلسطين، مشروعنا البديل هو بناء الحركة الوطنية خارج أسوار الكنيست، لدينا تجارب تمكنّا فيها من إسقاط مشروع برافر في الشارع، في الوقت الذي كان فيه النواب العرب في الكنيست يمررون قوانينَ هزليةً على شاكلة قانون تقليم أظافر القطط في الشارع، لا في القائمة المشتركة، تمكنّا من توحيد الناس حقاً في مواجهة قانون برافر، وفي إسناد سجناء الحرية في إضراباتهم، وفي حماية ظهر غزة حين انهالت عليها القنابل الإسرائيلية، في سياق الحديث عن مشكلات المجتمع الفلسطيني في 48، هنالك قضية فوضى سلاح الإجرام الذي يبدو متأصلاً ويسقط ضحاياه بشكلٍ شبه يومي. أظن أن العنف الموجود في المجتمع هو أمرٌ لن يمكن حلّه بالتأمل واليوغا، هذا العنف موجودٌ لأسبابٍ واضحة، وهو لن يزول، لكن علينا أن نفكرَ مثلاً فيما لو كانت هنالك حركةٌ تأخذ شرعيتها من الشارع، وقادرةً على افتعال اشتباكٍ يوميٍ مع الاحتلال لانتزاع حقوق الناس كما ينبغي، وبالطريقة الوحيدة الممكنة للتعامل مع أي احتلالٍ في هذا العالم. علينا أن نعمل خيالنا في تصور المسار الذي سيتوجه إليه هذا العنف كلّه، بدلاً من أن يحرقنا نحن.