"لن أنسى أبداً حجم الدمار، ولا الشعور بأن الموت كان أحياناً على مسافة قريبة، لم نكن نرى بيوتنا، كنّا نحمل الكاميرات ونتنقل عبر الحواجز العسكريّة والطرق الوعرة، كنا نبيت في مستشفيات، أو عند أناس لم نعرفهم، ورغم الخطر كنّا نصر على مواصلة العمل، في اللّحظات الصعبة تغلّبت على الخوف، فقد اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الناس؛ ليس سهلاً ربما أن أغيّر الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرةً على إيصال ذلك الصوت إلى العالم" شيرين أبو عاقلة.
رصاصةٌ غادِرة، تماماً أسفل خوذتها الصحفية اخترقت جانب عنقها واستقرت أسفل الأذن، معلنةً بدويّها الذي حاول جاهداً اختراق الآذان الصمّاء، أنّ "الشاهدة" باتت "شهادةً" على فداحة الجريمة وبشاعة الاحتلال وبطشه، لم تخش شيرين الموت وقفت كغصن زيتون متجذر في وجه طغيانٍ جائر، ربما فارقت الحياة لكنها ستبقى راسخة في صفحات فلسطين المشرّفة، تشرق على هضاب القدس برفقة كنفاني وشناعة وكوكبةٌ عظيمةٌ من جنود الحق والحقيقة.
جريمة قتل متعمّدة..
أجرت بوابة الهدف الإخباريّة، لقاءً مع ممثل لجنة العلاقات العامة والإعلام في نقابة الصحفيين الفلسطينيين، الصّحفي عمر نزال، الذي أشار إلى أنّ يوم استشهاد الصحفيّة أبو عاقلة، يوم أسود وحزين للصحفيين الفلسطينيين، ارتكب خلاله العدو الصهيوني جريمة احتلالية جديدة تضاف إلى سجله الحافل بالجرائم تجاه أبناء شعبنا الفلسطيني، وخاصة بحق الصحفيين.
ولفت إلى أنّ الشهيدة شيرين هي الشهيدة الصحفيّة السابعة والأربعين التي سقطت على أرض فلسطين أثناء تغطيتها الإعلاميّة منذ عام 2000، مؤكّداً أنّ هذه الجريمة -وفقًا لزملائها وشهود العيان- تمت بشكلٍ متعمّد حيث لم يكن هناك إطلاق نار في المكان.
وأضاف القول: "ما حدث هو استهداف متعمّد لشيرين، وامتثالاً لتصريحات عضو الكنيست "الإسرائيلي" الذي قال أنّ "الصحفيين يعيقون عمل قوّات الأمن الإسرائيليّة"، وبالتالي هذه الجريمة لن تمر دون محاسبة.
وصرّح نزّال أنّ نقابة الصحفيين الفلسطينيين ستتابع الموضوع على المستوى الدولي من أجل المطالبة بتحقيق دولي عاجل وشفاف وموضوعي في هذه الجريمة، ومن ثم إحالتها إلى محكمة الجنايات الدولية بالتعاون مع كل الجهات الضامنة لحقوق الصحفيين.
وفي السّياق ذاته، أوضح أنّ دور الأمم المتحدة دوراً منحازاً، ويكيل بمكيالين، مستدركاً: "ولكن مع ذلك نحن لن نكف عن مطالبة العالم بأن يري بعين الحقيقية، وهذا عملنا في النقابة لضمان حقوقها وسيادتها، ونحن نعتمد على إرادة الصحفيين الفلسطينيين وتصميمهم على مواصلة عملهم مهما بلغ الثّمن".
وأكّد على أنّ الصحفيين الفلسطينيين سيبقون -رغم هذه الجريمة والدم الذي سال في مخيم جنين- عيناً للحقيقة وشعلة أمام جرائم الاحتلال وفضح جرائمهم للعالم أجمع.
لا تراجع عن رسالتنا..
واعتبر مدير المركز الفلسطيني للاتصال والتنميّة، الصحفي فتحي صبّاح، استشهاد الصحفيّة أبو عاقلة، خسارة كبيرة للأسرة الصحفية الفلسطينية، وخسارةً لكل الشعوب التي تناضل ضد الظلم والقهر والاحتلال.
وقال صبّاح: "هذا يوم حزين جدًا في تاريخ الشعب الفلسطيني وهو يوم يشبه كثير من الأيام التي قتل فيها صحفيون أبرياء، سعياً لإخراس الصحافة، واستهدافاً للكلمة الحرة والصادقة، وللرواية الفلسطينية".
وأفاد صبّاح بأنّ جريمة الاحتلال بحق الصحفيّة أبو عاقلة، ليست الأولى من نوعها، مستذكراً جرائم قتل الزملاء الصحفيين يوسف أبو حسين، وأحمد أبو حسين وياسر مرتجى، و غسان كنفاني ، وغيرهم العشرات من أصحاب الكلمة والصورة، التي جاءت ضمن صراع الرواية وصرّاع الكلمة والوجود والصراع على الأرض.
وشدّد على أنّ رسالة الصحفيين، هي البقاء على عهد فلسطين وعلى عهد القضية، وعدم التراجع عن تقدّم الصفوف من أجل كشف جرائم الاحتلال وزيف ادّعاءاته، مشيراً إلى أنّ الصحفيين في كل مكان في فلسطين يؤدون عملهم بمهنية ونزاهة وموضوعية، وينقلون الأحداث كما هي على أرض الواقع.
وطالب صبّاح بضرورة محاسبة "إسرائيل" وقادتها على انتهاكاتهم سواء بحق الصحفيين أو المواطنين الفلسطينيين، مؤكّداً على أنّ جريمة قتل صحفي هي جريمة حرب بالقانون الدولي، وأردف قائلاً: "نحن شعب يقاتل من أجل الحرية ويناضل في سبيل تحرير أرضه، كل علمية قتل لمواطن أو صحفي هي جرائم حرب يجب أن يحاكم عليها العدو".
وختم صبّاح قوله: "لدى شيرين تجربة كبيرة في المجال الصحفي، حيث غطت تقريبًا ربع قرنٍ من أحداث الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، منذ بدايات الانتفاضة الأولى وأحداث الضفة، وما تلاها من أحداث إرهابيّة بحق شعبنا، واليوم نحن نعاهد شيرين بأنّنا لن نتراجع عن رسالتنا، وكل هذه المحاولات لكتم الصوت وطمس الرواية الفلسطينية لن تتحقق ابدًا".
نظام يكيل بمكيالين..
ويرى نائب مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، حمدي شقّورة، أنّ استهداف الصحفيّة شيرين جريمة حرب بامتياز، ومن ضمن جرائم الحرب المنظمة التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين وضد الشعب الفلسطيني.
وأوضح أنّ قتل أبو عاقلة واستمرار استهداف الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، يهدفُ لإخراس الحقيقة، ومنع وصول الصوت الفلسطيني إلى المجتمع الدولي.
وأضاف: "كانت الصحفية تعمل بزيّها الرسمي، وتتخذ كافة أدوات السلامة التي تميزها كصحفية، ومع ذلك تم استهدافها، لا جديد في هذه الجريمة عمّا مارسته قوات الاحتلال من جرائم منظّمة ضد المدنيين بما فيهم الصحفيين".
ونوّه شقّورة، إلى أنّ المركز الفلسطيني وغيره من المنظمات والمؤسسات الفلسطينية، مثل مؤسستي الحق والميزان يعملون على ملف محكمة الجنايات الدولية، وفتح تحقيق في جرائم الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم، لافتاً إلى أنّ مقتل أبو عاقلة دليل إضافي على جرائم العدو.
وقال شقّورة: "ملف المحكمة الجنائية هو ملف أساسي ويجب أن نضغط بكل قوة وأن نسعى بكل جهد لاستمرار التحقيق وجني ثماره في كشف جرائم الاحتلال".
صوت فلسطين النّابض..
جريمةٌ جديدةٌ بشعة ارتكبتها قوّات الاحتلال الصهيوني بحق الصحفيّة شيرين أبو عاقلة، لكنها لم تكن مستبعدةً على الإطلاق، حتى شيرين نفسها كانت تدرك أنّها قد تكون الضحيّة التاليّة لعدوٍ متعطش للقتل والدماء، رغم هذا الوعي العميق تمسكّت شيرين برسالتها وواصلت تغطيتها بمهنيّة وأمانة عاليّة، دون اكتراثٍ للثمن العظيم الذي قد تدفعه نظير هذا الثبات على الموقف.
قتلت شيرين، لكنّ صوتها اليوم أعلى من أي وقتٍ مضى، صوتاً جباراً شامخاً عتياً، يحلّق فوق قبّة الصخرة، وفوق قمم الجليل والكرمل، صوت الحقيقة صوت المقهورين والمعذبين صوت شعبٍ ما هان ولا لان يوماً، رعدٌ يهز عرشاً هشاً بُني على باطل، وداعاً شيرين يا صوت فلسطين النابض.