Menu

رسالة وداع.. إلى المثقف المشتبك

راجي حداد

لأنه يكره الرثاء؛ فهذا لن يكون رثاءً، بل وصف لمكان واحد من تلك الأماكن التي تزخر بها الذاكرة ونلتقيه كل يوم فيها... كان يوماً صيفياً هادئً في أحد المعسكرات التي تحتضن بين ذراعيها ذلك الحلم الأزلي بالتحرير، ليس تحرير فلسطين فحسب، بل تحرير كل الأمة العربية من محيطها لخليجها، كان مكاناً مزدحماً بذلك النفر القليل من المقاتلين الذين يطيقون كل شيء ويملون من ندوة لمدة ساعة، إلا النفر القليل الذين أشغلهم القلم مثل السلاح، ولا يحتاج الأمر لفراسة أو ذكاء خاص لتميز من ينتمي للقتال من غيرهم.

كان هناك لقائنا الأول... هناك بتقاسيم وجهه التي تحمل كآبة محببة، ربما تركتها بقايا الترحال والغربة؛ التقيته لأول مرة باحثًا في شؤون عدوه وعدونا الأزلي، ليقدم ندوة عن الحركة الصهيونية سابرًا أغوارها... ذلك المثقف الذي أبهرنا بغزارة ثقافته وعمق قلمه، ونحن الذين ننظر للمثقفين من غير المقاتلين نظرة خاصة؛ أولئك الذين كنا نعتقد أنهم يعيشون في برج عاجي ولم تمتحنهم قسوة النضال الراعبة، وأن ذلك الجيل المثقف المقاتل قد اِنقرض وانتهى وفرزت الناس بين رفاق النار ورفاق القلم؛ دون انتقاص من أي منهم.

 ذلك الراحل المثقف هو ذاته الذي اِحتاج سبع سنوات لينهي دراسته الجامعية الأولى، رغم أنه المثقف العضوي المبدع، ليس لخلل فيه، بل لأنه ابن هذا التنظيم وهؤلاء المقاتلين، الذين زرعوا: أن الذهاب إلى جبهات القتال مكافأة، وليس تكليفاً؛ لذلك لم يكن يبدو غريبًا على ذلك المكان، بل كان منتمياً له شاربًا من روحه.

 

ربما اختلف معه الكثير في الإجابة على سؤال ما العمل، لكن لا يمكن الاختلاف على إنه سار طريقًا طويلًا للحصول عليها؛ هو ذلك الرجل الذي كان مثقفًا ومشتبكًا في آن واحد؛ ليرسخ فينا مدرسة شهيدنا القائد غسان كنفاني ورفاقنا القادة العظماء عملاقة اليسار، التي لا تفك تثبت لنا أن فعل المقاومة، ليس محصورًا بفعلها العنيف الجسدي، بل يمكن أن يكون بكلمة تنير الدنيا لنا وللآخرين.

فجر يوم الخميس الماضي ثقب قلبي؛ عندما غادرنا بموت غادر رفيق النار والقلم الرفيق أحمد مصطفى جابر... راح ضحية لصراع الكون الأزلي بين ولادة وموت... فنم بسلام، حتى يحين موعد اللقاء.