Menu

مفهوم العلمانية: التعريف والأنساق والحالة الفلسطينية (الجزء الرابع)

د. وسام الفقعاوي

صورة تعبيرية

يختلف الوضع الذي نشأ في فلسطين إبان الاستعمار البريطاني لها، وبروز تحديات المشروع الصهيوني الاستيطاني، عن نظيراتها في البلدان العربية التي خضعت للاستعمار البريطاني والفرنسي وغيرهما منذ أوائل القرن العشرين، تحت مسمى الانتداب، الذي من المفترض أن يؤهل تلك الدول لحكم ذاتها وتقرير مصيرها، مما وضع هذه الدول أمام مهمات وجدالات غير مقاومة الاستعمار، منها ما تناول شكل وطبيعة الدولة ما بعد "الانتداب"، ونصوص الدساتير التي ستنظم العلاقة داخلها، وحسم المرجعية الأيديولوجية للدولة وهويتها إن كانت إسلامية أو قومية أو وطنية، وبعيداً عن نقاش مدى نجاح "الدولة الوطنية" أو ما تعارف عليه "بدولة ما بعد الاستعمار"، في تخطي عتبة بناء الدولة بالمعنى الحديث، وحفظ وحدة وتماسك شعبها وأرضها، الذي ليس هدفاً لبحثنا هنا، وإن كانت النتائج التي وصلت إليها البلدان العربية تعطي إجابة كافية على ذلك.

الوضع الذي نشأ في فلسطين والتحديات التي فرضت على الشعب الفلسطيني، لم تجعل الجدل الدائر كما هو حال البلدان الأخرى، بل كانت الأولوية مواجهة الاستعمار البريطاني الحاضن للمشروع الصهيوني، من خلال وعده له بإقامة وطن قومي له في فلسطين، ورعاية الهجرة اليهودية وتنفيذ "الوعد البلفوري"، على حساب حقوق وتاريخ الشعب الفلسطيني. ومع أن  المُستعمر الصهيوني جاء محملاً برواية دينية توراتية، كانت رئيسية في أدلجة المشروع الصهيوني وأهدافه الاستعمارية – الاستيطانية، لم يقابلها الفلسطينيون برواية دينية مؤسسة أيديولوجياً، بل اتسم خطابهم السياسي، بخطاب وطني "علماني" بالإجمال، وظف الديني في خدمة الوطني وليس العكس، مارسه إلى جانب ثوار المدن والقرى رجال الدين وخطباء المساجد، في حشد وتعبئة مكونات الشعب الفلسطيني لمواجهة هذا المشروع وأهدافه، ورغم الهزيمة التي مُني بها الفلسطينيين عام 1948، وتشتت شملهم في أكثر من بلد عربي مجاور، كان التأثير الأكبر في أوساطهم للقوى القومية العربية التي اتسم خطابها بمفاهيم تقدمية وعلمانية واشتراكية أيضاً.

لم يعد الخطاب الديني المسيس يلعب دوراً محورياً رئيسياً في الخطاب الفلسطيني، إلا بعد أن شهدت الحالة القومية والوطنية تراجعات وارتدادات كبيرة وجوهرية إثر نكسة عام 1967، وبروز دور رجال الدين الذين ارتبطوا بحركة الإخوان المسلمين، وكان معظمهم قد ارتحل فترة الخمسينيات ومنتصف الستينيات إلى دول الخليج، وخاصة السعودية، حيث بدأت تظهر تعبيرات "العودة إلى الدين الصحيح" و"السلف الصالح" و "دولة الخلافة"، بشكل قوي في خطاب أيديولوجي حملته قوى وحركات مؤسسة، أضحت ترسخ بنيتها المجتمعية "الاقتصادية والاجتماعية"، وتعلن بوضوح عن أهدافها السياسية المغلفة بالمرجعية الدينية، وباتت قوى وحركات الإسلام السياسي تلعب دوراً رئيسياً في تحدي ما سبق من تاريخ، حافظ فيه الخطاب القومي والوطني، على مسافة محددة مع الخطاب الديني، الذي كان دينًا شعبياً "روحانياً" إلى تلك اللحظة، قبل أن يصبح الخطاب الوطني ذاته محل للجدل الفقهي، والتسابق لأدلجته دينياً، تماهياً مع خطاب ديني بات له الغلبة على العلماني فيما بعد، خاصة بعد الشروع الفعلي لقيادة منظمة التحرير في نهج التسوية.

فبعد أن كان قد حفل الحقل السياسي الفلسطيني بالتعددية الأيديولوجية والحزبية والسياسية، قبل النكبة وتكرست بعد سيطرة منظمات المقاومة الفلسطينية على منظمة التحرير عام 1969، لم يتوقف تصاعد الخطاب الديني السياسي عند حدود محاولات أدلجة الصراع مع الاحتلال، بل خرج علينا الفكر الديني المؤدلج بخطابه المنغلق على لوائح الممنوع والحرام والفرائض والواجبات والتكفير.. الخ، وصولاً لرفع السيف في وجه كل مخالف، على طريق "الأسلمة".

اقرأ ايضا: مفهوم العلمانية: التعريف والأنساق والحالة الفلسطينية (الجزء الثالث)

 الخطاب الفلسطيني: الديني والوطني قبل النكبة:

يمكن القول وفي افتتاح تناول هذا العنوان، وبكل وضوح أن الديني كان في خدمة الوطني، انطلاقاً من كونه كان ديناً شعبياً، غير مؤدلج أو خاضع للجدل الفقهي، على حساب الخطر الاستعماري البريطاني - الصهيوني الذي كان يتهدد فلسطين ومن بوابتها كل الوطن العربي، وهذا كان السمة العامة التي تميّز بها الخطاب السياسي الفلسطيني ما قبل النكبة.

اقرأ ايضا: مفهوم العلمانية: التعريف والأنساق والحالة الفلسطينية (الجزء الثاني)

ويذهب العديد من الباحثين إلى اعتبار الجمعيات الإسلامية - المسيحية التي شُكلت في أواخر عام 1910 وفي بداية عام 1920 في المدن والبلدات في فلسطين أنوية البنية التنظيمية للوطنية الفلسطينية، وقد كانت التسمية الأصلية لهذه المؤسسات "المؤسسات العربية"، وإن كانت السلطات البريطانية طلبت من مؤسسي هذه المؤسسات تسميتها بـ "المؤسسات الإسلامية -المسيحية" في محاولة لإبعادها عن سماتها الوطنية. إلا إنه يمكن اعتبارها إحدى المقدمات لظهور دور البنى التنظيمية الفرعية للحركة الوطنية الفلسطينية. فهذه المؤسسات أنشئت لمواجهة الاحتلال البريطاني وسياسته الداعمة للمشروع الصهيوني، واستهدفت هذه الجمعيات توحيد الفلسطينيين ضد محاولات البريطانيين والصهاينة تقسيمهم على أساس ديني أو أسس أخرى[1]. على ما قد يؤخذ على مؤسسيها من قبولهم بالتسمية التي فرضها الاستعمار البريطاني على هذه الجمعيات من المؤسسات العربية، إلى المؤسسات الإسلامية – المسيحية التي تحمل في طياتها تقسيم طائفي، الذي قد يفتح المجال "للوافد" الجديد القادم بروايته التوراتية الاستيطانية، لشعبه المختار، لكن في المحصلة كانت مقراراتها وطنية في مواجهتها للخطر القائم والداهم في آن.

لقد كانت المبادرة لعقد مؤتمرات وطنية بشكل منتظم خلال الفترة ما بين 1919 – 1928 والتي عقد منها سبعة مؤتمرات خلال تلك الفترة، حيث لم يعقد أي منها على أساس ديني. وحضر ممثلو الجمعيات الإسلامية - المسيحية فقط المؤتمرات الثلاثة الأولى[2]، وجرى توسيع العضوية في المؤتمرات اللتي تلت ذلك لتضم شخصيات من هيئات ومجموعات خارج نطاق الجمعيات الإسلامية- المسيحية. وبعد عام 1928، شهدت الحياة السياسية الفلسطينية تعزيزًا لظاهرة الأحزاب السياسية، فقد تم تشكيل سبعة أحزاب في نهاية عام 1936 عند بدء الثورة ذلك العام[3]. وقد حضر المؤتمر الذي عقد خلال الإضراب العام في عام 1936 ممثلون عن الأحزاب السياسية، بالإضافة إلى آخرين، وقد انتخب هذا المؤتمر اللجنة العربية العليا، وركزت مجمل تلك المؤتمرات على البعد القومي للوطنية الفلسطينية كما تبلورت بعيد الحرب العالمية الأولى – من اعتبارها فلسطين ( سوريا الجنوبية) كجزء لا يتجزأ من سوريا الكبرى.

اقرأ ايضا: مفهوم العلمانية: التعريف والأنساق والحالة الفلسطينية (الجزء الأول)

بالرغم من انكشاف المشروع الصهيوني بأبعاده الدينية منذ بداية القرن العشرين، إلا أن الحركة الوطنية الفلسطينية الوليدة نأت بنفسها عن الطائفية والتعصب الديني. فبداية ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي -1918- كان من خلال الجمعيات الإسلاميةالمسيحية، وهي التي مهدت لظهور "أحزاب وطنية"، وكان ظهور هذه الجمعيات كمؤطر للحركة السياسية الفلسطينية، ومُعبّر عن مطالب الشعب العربي الفلسطيني له دلالة واضحة، وهي أن الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه متحد في مواجهة الغزو الصهيوني والاستعمار البريطاني، وأنه شعب يؤمن بالتعايش بين أصحاب الديانات في الوطن الواحد، ورغم تشكيل جمعية الشبان المسلمين منذ منتصف عشرينيات القرن المنصرم، إلا إنها لم تتخذ بعداً دينياً مؤدلجاً، وكان حضورها السياسي أكثر منه ديني، فالفكرة الإسلامية لم تكن تتصدر أنشطة هذه الجمعيات، وقد وصفها كاتب إسلامي بأنها كانت علمانية وطنية مع أن رؤسائها كانوا عادة من رجال الدين البارزين[4].

لقد ساهم الخطاب الديني، على امتداد فترة الاستعمار البريطاني، في تشكيل خطاب مقاوم يعلن بوضوح أن غاية هذا الاستعمار السيطرة والاحتلال للأرض واستبدال إنسانها بوافد جديد، عبر طرد أصحابها الأصليين. أما أدوات هذا الخطاب المقاوم، إلى جانب الثوار الذين انتشروا في مختلف المدن والقرى الفلسطينية، فهم أئمة مساجد المدن والقرى وخطبائها، الذين وظفوا خطبهم في بث فكرة المقاومة باعتبارها واجباً دينياً، أي "الدين كان وسيلة وليس رسالة"[5].

وعلى امتداد الاستعمار البريطاني، الذين استمر نحو ثلاثين عاماً، اشتهر رجلين كانا كلاهما من رجال الدين، الذين اتخذا شهرتهما من دورهما الوطني وليس مكانتهما الدينية، فالأول من خلال رئاسته للجنة العربية العليا، والثاني من تشكيله العصابي الفدائي، واسشهاده في معركة مشهود لها في صفحات التاريخ العربي الفلسطيني، الأول هو مفتي القدس أمين الحسيني، والثاني الشيخ عزالدين القسام، الذي قدم إلى فلسطين من سوريا بعد أن كان طريداً للاحتلال الفرنسي. "وقد كان النشاط السياسي بالنسبة إلى كليهما جزءاً لا يتجزأ من عقائدهما الدينية، غير أنهما لم يقيما منظمة إسلامية القاعدة، ولم يرسيا أسساً لها"[6].

وتشكيل القسام العصابي كان محط إكبار وإعجاب شديدين في الكثير من المصادر القومية والإسلامية، لكونه اعتبر أنه كان جزءاً من المقدمات، أو الإرهاصات التي أسست لافتتاح أكثر الفترات بطولية في التاريخ الفلسطيني الحديث، أي ثورة 1936. وعد بعض الباحثين أن التشكيلات العصابية التي وقف خلفها بمثابة العمود الفقري المنظم للنضال المسلح ضد البريطانيين الذي أعقب استشهاده واستمر ثلاثة أعوام.

في كل الأحوال، سواء صح كل ما سبق أو جزء منه، فلا جدال أن تراث القسام قد استعمل بطريقة تؤدي إلى تثبيت التصور الشعبي للنضال المسلح باعتباره واجباً دينياً وبالتالي واجباً معنوياً وخلقياً[7]، حيث استخدم الخطاب الديني في عملية الحشد والمشاركة وطنياً، الذي كان من المحتمل لو استمر على هذا النحو لوصلنا إلى ما يمكن تسميته "بلاهوت التحرير" على غرار ما جرى في بلدان أمريكا اللاتينية في مواجهة الاستعمار والقوى المحلية المتحالفة معه في القارة، حيث مثّل "لاهوت التحرير" المسيحي الذي تبلورت ملامحه في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين علامة فارقة في تاريخ المسيحية بصفة عامة وفي تاريخ اللاهوت المسيحي بصفة خاصة، من خلال جمعه بين ما هو روحي وما هو زمني، وبين الإيمان والعمل، بين القيم الدينية والمتطلبات المادية. والأهم أنه أعاد النظر في قيمة الدين ودوره في حياة البشر وتحريرهم من الفقر والاستعباد والاستغلال والاستعمار.

جاء لاهوت التحرير في السياق المسيحي تعبيراً عن مشكلات اقتصادية - اجتماعية وسياسية وأخلاقية عرفتها دول أمريكا اللاتينية التابعة اقتصادياً وسياسياً، وأمام مشكلة الاستعمار وانتشار الفقر وبؤس أوضاع العمال، وأمام عجز الأجهزة الأيديولوجية القديمة بما فيها الكنيسة عن تقديم المساندة النفسية والروحية والعملية لجماهير لم تعد تستسيغ خطب الإرشاد والدعوة إلى الصبر والتحمل، خاصة في وقت انتشرت فيه الماركسية بكل اتجاهاتها من خلال الحركات الثورية والمنظّمات النقابية، بحيث مثلّت طرازاً جديداً للتفكير ونمطاً من الممارسة يقترح إمكانيات حقيقية لتغيير الواقع نحو الأفضل. هنا يمكن لحظ عملية القطع في التجربة الفلسطينية بين الديني والوطني الذي حال ما استمر الوصل بينهما كان من المحتمل أن يتطور  ليغدو لاهوتاً للتحرير، يجمع بين قيمة ودور الدين وعملية التحرر الوطني والطبقي، لكن عملية القطع بدأت ملامحها في التطور والتصاعد حين تم أدلجة الدين ومأسسته والدخول في نفق الجدل الفقهي حوله وحول القضايا المادية، وانتشار الدعوة السلفية إجمالاً.

دخلت حركة الإخوان المسلمين إلى فلسطين وأسست أوائل فروعها سنة 1945، ثم امتدت لاحقاً إلى جميع أرجائها. ومع أن المفتي أمين الحسيني عين رئيساً فخرياً للحركة، إلا إن حضورها لم يكن ملموساً بشكل كافٍ. وتذكر العديد من الكتابات التي تناولت دورهم في فلسطين في تلك المرحلة الحاسمة في تاريخ الصراع الصهيوني – العربي، بأن مساهمة الإخوان المسلمين في المجهود الحربي سنة 1948، كان ضئيلاً على نحو لافت، وكانت مصرية الطابع لا فلسطينية، ومن المعروف أن نشأة حركة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، تزامن مع وهج النهضة العربية التي شهدت مقدماتها ومسارها أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ورموزها "الأفغاني والكواكبي ومحمد عبدو وشبلي الشميل وإسماعيل مظهر وأحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم"، وليس بخافي الدور البريطاني في دعم تأسيس حركة الإخوان من خلال هيئة قناة السويس (البريطانية – الفرنسية) ومدهم بأول دفعة مالية لازمة لذلك[8].

على العموم يمكن أن نخلص إلى أن تطور العلمانية في الثقافة السياسية الفلسطينية كاستراتيجية لم تكن واعية إلى حد كبير في المواجهة مع الحركة الصهيونية، ولاحقا مع "إسرائيل" التي منحت الدين والهوية اليهودية أولوية في تشكيل دولتها لتوليد شرعية لعمليات التطهير العرقي للفلسطينيين، إلا أنها عكست صور التعددية الدينية التي اتسم بها المجتمع الفلسطيني لقرون مضت، وعكس ذلك بحد ذاته تكوّن الحركة الوطنية الفلسطينية التي بنت نفسها في العقود الأولى من القرن العشرين. وقد كان الوضع كذلك ما قبل عام 1948، واستمر بعد ذلك بإعادة انبعاث الوطنية الفلسطينية في الستينيات.

فعلى الرغم من أن النخبة السياسية الفلسطينية (من المسلمين والمسيحيين) أنبتت نوعا من "الدين المدني"، إلا أنه من المبالغة وصف الحقل السياسي الوطني الذي برز قبل النكبة كحقل هيمنت عليه سياسات علمانية واضحة؛ لكن، ليس هناك أدنى شك من أن الفلسطينيين بنوا في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية "ملامح" هوية وطنية تعايشت مع هويات أخرى (محلية ودينية، وطائفية). وقد أدت التغييرات والتحديات التي واجهت المجتمع الفلسطيني والمشروع الوطني الفلسطيني إلى إضعاف تأثير الهويات الدينية والهويات الإرثية الأخرى[9].

ما سبق يعني بأن الفترة الممتدة منذ بداية الاستعمار البريطاني وقبل وقوع النكبة لم تشهد فلسطين تياراً إسلاميًا سياسيًا مستقلًا بالرغم من أن الفلسطينيين تميزوا بالتدين بالمفهوم العام (التدين الشعبي)، حيث لعب الخطاب الديني بالإجمال الذي مارسه رجال دين ومؤسسات وجمعيات دينية، دوراً بالغ الأثر في استيعاب خطاب وطني، كان يدعو لمواجهة الاستعمار البريطاني وأهداف المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، الذي تمكن من هزيمة الجيوش العربية، واحتلال أرض فلسطين، وحرمان شعبها من حقهم في الاستقلال وبناء وطنهم، وممارسة التطهير العرقي بحقهم، وتهجيرهم وتشتيتهم في الدول المجاورة، حيث بات جلّهم يقع تحت تأثير الدول المضيفة.  

الخطاب الفلسطيني: جدلية التقدم والتأخر ما بين النكبة والنكسة:

تبنى الشتات الفلسطيني بصورة إجمالية، موقفاً قومياً عربياً، وكان من المؤيدين المتحمسين لجمال عبد الناصر وسياساته. وكان الفلسطينيين أعضاء ناشطون وبارزون في جميع المنظمات السياسية، كالبعث، وحركة القوميين العرب، والحزب القومي السوري، والحزب الشيوعي. وإذا ساد الخطاب القومي العربي في فترة أواسط الخمسينيات وأوائل الستينيات، كانوا هم أشد دعاته حمية، حيث اختار الفلسطينيون الإيمان بالوحدة العربية باعتبارها الشرط الذي لا بد منه لمعركة التحرير والعودة.

لقد كانت من أهم سمات ثورة يوليو المصرية عروبتها التي بدت على نحو مبكر، في العامل الفلسطيني الذي دخل بيان الثورة الأول، والأخذ بخيار العروبة بين كثرة الخيارات المصرية والإفريقية والمتوسطية والإسلامية وسواها، هو أخذ إلى حد كبير بمطلب النهضويين والتحديثيين والتقدميين من برجوازية صاعدة ومثقفين ما فتئت تركز منذ العشرينيات على الدائرة العربية أو مدى مصر الحيوي. وهكذا كان يجري علمنة فكر الثورة من خلال بابين:  باب التحديث التقدمي البرجوازي الذي ورثته الثورة من جهة، وباب الخيار العروبي من جهة ثانية. وتقوم أهمية الأول، في حتمية الأخذ بشروط العقل والعلم في كل تحديث أو تقدم، بينما تبدو أهمية الثاني في طابعه القومي غير الديني، ولذلك بالضبط كان خيار العلمنة في التصاقها مع التحولات الاشتراكية التي بدت واضحة في خطاب وممارسة عبد الناصر، وهذا الخيار كان الفلسطينيون من أكثر المتأثرين بل المعجبين به، وتوطد ذلك من خلال العلاقات الحميمية التي جمعت حركة القوميين العرب فلسطينية وقومية التشكيل والهدف مع الناصرية[10].

في الوقت الذي تصاعدت وتيرة المد القومي وخطابه الشعبي، كان البلد الوحيد الذي سمح للتيار الديني بأن يعبر عن ذاته بصورة منظمة هو الأردن. وبعد فترة وجيزة من اختيار الليبرالية في أوساط الخمسينيات، تم الانقلاب على حكومة سليمان النابلسي، وتقرر حل الأحزاب السياسية وحظر نشاطها، ووقف الأنشطة السياسية كافة. والجماعة الوحيدة التي استثنيت من هذا الحظر، الذي ظل قائماً حتى أواسط الثمانينيات، كانت حركة الإخوان المسلمين. هذا الاستنثاء قد يعتبره البعض جائزة لها على موافقتها على ضم الضفة الغربية إلى إمارة شرق الأردن عام 1950، لتصبح المملكة الهاشمية الأردنية منذ ذلك التاريخ، وقد يعتبره البعض استمراراً لقطع السياق التقدمي العلماني في أوساط الحركات القومية التي كانت ناشطة في الساحة الأردنية، ومعظمهم من الفلسطينيين الذي هاجر منهم العدد الأكبر إليها بعد نكبة عام 1948، وفي ذات السياق، لا يمكن إغفال قرار الاستثناء من الحظر المذكور أعلاه، عن حالة العداء المحتدمة في حينه بين النظامين المصري والأردني.

رغم ما سبق، يذهب الكثير من المؤرخين والباحثين، إلى أن نشاط الحركات الإسلامية التي وجدت لها حضور منذ أواسط الخمسينيات، كان يندرج في "دائرة الروحانيات"، بحيث كانت القوى "القومية العلمانية" لها مساحة كبيرة في المجالات الاقتصادية والسياسية، إلى جانب النقابات ومختلف الجمعيات المرتبطة بالقانون الوضعي[11]

في الواقع الذي وجد الفلسطينيون أنفسهم فيه، فقد تم التعبير عن الهوية والحقوق الفلسطينية بعيد النكبة في العام 1948 على أساس "علماني". فقد كانت العمليات الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية والثقافية التي أثرت في التجمعات الفلسطينية في أماكن وجودها الترجمة العملية لهذا التعبير، من خلال غلبت السمة العلمانية على الاتجاهات الرئيسية للقومية العربية وتركيزها على المضمونين الثقافي والسياسي للوطنية وللانتماء القومي، ورهانها على الوحدة العربية المستقبلية. وقد ميزت الحركات والأحزاب القومية العربية خطابها السياسي عبر التعبئة ضد الإمبريالية والصهيونية (وإسرائيل ككيان صهيوني). وفي الخمسينيات والستينيات (ولغاية حرب الأيام الستة في عام 1967 )، تضمنت حملات التعبئة ما أطلق عليه بالرجعية العربية – والتي شملت الدول التي تشدد على الصبغة الإسلامية للدولة (السعودية، والعديد من دول الخليج)، وتلك التي يدّعي حكامها أنهم من سلالة الرسول (الأردن والمغرب). ولم تركز القومية العربية في الخمسينيات والستينيات على الدين في خطابها. وفي واقع الأمر دخل عبد الناصر في صراع مباشر ضد الإخوان المسلمين وقام بقمعهم. وقد أقامت الدول التي تبنت التوجهات القومية علاقات جيدة مع الاتحاد السوفييتي ودول اشتراكية أخرى واستخدم العديد منها (سوريا، العراق، مصر، الجزائر، اليمن الجنوبي) الاشتراكية بندًا محوريًا في برامجهم المعلنة[12].   
قيام الكيان الصهيوني عام 1948 وتشريد غالبية الشعب الفلسطيني وممارسته لسياسة تهويد الأرض وتدنيس المقدسات، ثم احتلاله لبقية أجزاء فلسطين وأراض عربية أخرى عام 1967، وإعلانه ضم القدس واعتبارها عاصمة موحدة له، كل هذا استفز الشعور الديني عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين، إلا أن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة لم ترد على العنصرية الصهيونية بعنصرية مماثلة فقد ميزت بين اليهود كأصحاب ديانة سماوية والصهيونية كفئة من اليهود يوظفوا الدين لأغراض سياسية استعمارية، هذا الشعار الذي تحول إلى سياسة رسمية عند منظمة التحرير الفلسطينية وتم التنصيص عليه في مقررات المجلس الوطني الفلسطيني لاحقا[13].

لم تقتصر الصدمة التي تركتها هزيمة حزيران 1967، على دور الدولة المصرية والتيار الناصري، والنقد الذي طال "ثغرةَ" فقدان الديمقراطية، في بنية النظام الناصري، ولم تبقَ المسألة في إطار النقد للتجربة، بل طالت التشكيك في الفكرة القومية والتقدمية العلمانية التي حملتها بين جنباتها، وعبرت عنها في العديد من جوانب خطابها وممارستها، لتبدأ متوالية من التراجع الذي وجدت فيه بعض القوى القومية التي كانت تقف إلى جانب عبد الناصر، فرصة للفرار من نتائج الهزيمة، كما فتحت نافذة واسعة لتطل من خلالها قوى وحركات الإسلام السياسي.

 

المراجع:

[1]. رشيد الخالدي: الهوية الفلسطينية، بناء الوعي الوطني الحديث، دار نشر جامعة كولومبيا، نيويورك، 1997.

2. ب. كيمرلينغ و ج. س. ميجدال: الفلسطينيون، تكون شعب، دار نشر جامعة هارفارد، كمبريدج، ماساشوسيتس، 1993.

3. فيصل حوراني: الفكر السياسي الفلسطيني (1964 - 1974) مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1980.

4. موسى البديري: الفلسطينيون بين الهوية القومية والهوية الدينية، مجلة دراسات فلسطينية، العدد 21، شتاء 1995.

5. المصدر نفسه.

6. المصدر نفسه.

7. المصدر نفسه.

8. رفعت السعيد: حسن البنا متى كيف ولماذا؟ دار الطليعة الجديدة، ط. 10، 1997.

9. جميل هلال: العلمانية في الثقافة السياسية الفلسطينية، موقع شبكة فلسطين للحوار، بتاريخ 11 نيسان (أبريل) 2006: https://www.paldf.net/forum/showthread.php?t=56664

10. محمد شيا: علمنة المشروع القومي في المشرق العربي 1920 – 1970، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2011.

11. علي الكنز: البديل الديمقراطي في الوطن العربي، من كتاب: نحو تجديد المشروع الاشتراكي، دار الفارابي، بيروت، ط.1، 1997.

12. جميل هلال: مصدر سبق ذكره.

13. إبراهيم أبراش: استشكالات الدين والسياسة في فلسطين، 3 كانون أول (ديسمبر) 2013، موقع سما الإخبارية: samanews.ps/ar/post/18015