منذ أن وصل الرئيس ترامب إلى مكتبه في البيت الأبيض، أعلن بكل وضوح "انحيازه" ودعمه الكامل للاستراتيجية "الإسرائيلية"، مؤكداً أن هذه السياسة الأمريكية الأصيلة منذ عقود وهو لا يعمل إلا على إعلانها وممارستها بشكل مباشر وصريح، وهو بذلك يتجاوز كل الأعراف الدبلوماسية المعهودة، وقد أعلن خططه على أنها تضمن " دولة للفلسطينيين كما هم يريدون، وأنها فرصتهم الأخيرة"، لذلك منح قيادات اليمين الفلسطيني والرئيس عباس سنتين للتفكير ودراسة الخطة، غير آبهاً بالمواقف المعلنة ل محمود عباس وطاقم سلطته " الرافضة" للصفقة!.
إن المشروع الأمريكي المعلن، في الواقع، يأتي منسجماً ومعُبّراً عن الاستراتيجية الإمبريالية وخاصة الأمريكية، التي رُسمت للمنطقة، وخاصة الوطن العربي، منذ نهاية القرن التاسع عشر، والتي تعتبرهما مناطق نفوذ استراتيجية " تدافع فيها عن مصالحها الحيوية وأمنها القومي"، ولو لم تكن " إسرائيل" موجودة لما تغير شيء على جوهر هذه الاستراتيجية، ولذلك أوجدوا هذا الكيان في فلسطين من أجل تدعيم وتصليب أدوات تنفيذ مخططاتهم ومشاريعهم، التي ما زالت في أوجها، لنهب وسرقة مقدرات الوطن العربي الهائلة وفي مقدمتها المواد الخام النفطية والمعدنية والغاز، لحل وتجاوز أعمق وأخطر أزمة شاملة تمر بها الإمبريالية والنظام الرأسمالي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
إذاً، يجب قراءة ما أطُلق عليه صفقة العصر في هذا الإطار وعلى أنها، التطور السياسي والعسكري الطبيعي والمنطقي للمشاريع الاستعمارية منذ حملة نابليون، على الأقل، حتى الآن، وليس على أنها نزق ترامبي أو عنجهية مستشاريه اليهود الصهاينة، ويجب رؤيتها على أنها، أيضاً، خطة أو صفقة ذات جذور سياسية عربية – صهيونية، دشنها أنور السادات بتوقيعه على اتفاقيات كامب ديفيد، التي عَبّرت في الواقع عن استعداد الأنظمة النفطية العربية ونضجها، للاعتراف بالكيان الصهيوني، وأبعد من ذلك اعتباره مكون أمني وعسكري أساسي من بناء المنطقة تتكئ عليه لقمع شعوبها ولإطالة أمدها كأنظمة معادية للمصالح القومية والشعبية العربية، وخاصة للقضية الفلسطينية ولحركة المقاومة والثورة المسلحة.
إن اتفاقيات كامب ديفيد، شَكلّت الحاضنة والمفرخة لكافة الاتفاقيات الرسمية الحكومية العربية مع الكيان الصهيوني، كاتفاقيات أوسلو الفلسطينية ووادي عربة الأردنية، وعملت أيضاً كبوصلة لإقامة العلاقات " غير الرسمية" بين معظم الأنظمة العربية وخاصة الخليجية النفطية والكيان الصهيوني، هذه الاتفاقيات لم تأتِ كتعبير عن نزق ساداتي شخصي بل هي استجابة للاحتياجات الطبقية للبرجوازيات العربية الريعية النفطية، والكومبرادورية الطفيلية التابعتين للرأسمالية العالمية ونظامها الإمبريالي.
وبما أن البرجوازية الفلسطينية وخاصة البنكية والخدماتية نشأت وترعرعت في أحضان هذه البرجوازيات التابعة وعلى ضفافها، كانت تبعيتها وما زالت أشد وأعمق اقتصادياً وسياسياً، وفي بعض الأحيان بشكل مباشر مع العدو، مما جعل من استعدادها لتنفيذ ما يطلبه منها سواء الوكلاء أو أسيادهم هو أعلى وأخطر. هذه التبعية الاقتصادية للبرجوازية الفلسطينية تجعل من ممثلها السياسي والتنظيمي الرئيسي (حركة فتح)، تابع وغير مستقل بنفس الدرجة وبنفس المقدار، ولا يمكن له أن يملك، موضوعياً، برنامج سياسي واقتصادي وطني، لديه الرغبة أو القدرة على مواجهة الاحتلال أو صفقة العصر التي يزعم أنه يرفضها، وأن ما يظهره على أنه في وضع " تصادمي" مع الاحتلال وصفقة القرن هو التعارضات في بعض المسائل التكتيكية والتفاصيل الإدارية لأداء السلطة لمهامها وحجم المكاسب التي تطمح لتحقيقها.
إن صفقة، أو برنامج، أو خطة ترامب تتطلب من أجل إفشالها الصدام الشامل وبكل الوسائل بين كتلتين متناقضتين تماماً، وهذا ما تدركه الامبريالية والحركة الصهيونية ومعهما الرجعية العربية العميلة، سمسارهم التنفيذي، لذا طُرحت الخطة من شقين، الاقتصادي والسياسي كما يقول جاريد كشنر الذي لخص الخطة بشكل مركز في حديث له نقلته وكالة بي بيس ي بالأسبانية بتاريخ 23/6 جاء فيه " أنه من الصعب تطبيق الجانبين الاقتصادي والسياسي معاً، إنه عمل شاق، وفضلنا فصلهما. هنا نبرز السؤال من يكون أولاً؟ وقررنا أن نبدأ من الاقتصادي، لأنه أقل جدلاً وصداماً ويترك المجال للناس لدراسة الصفقة بهدوء، وأعتقد أن المحاولات السابقة، لحل النزاع، فشلت لأنها بدأت من الجانب السياسي التشاحني، وأكيد أن تخصيص 50 ألف مليار كافية للبدء والإقلاع".
إذاً، لتفادي الصدام أو للتخفيف منه تم البدء بالجانب الاقتصادي، الذي سيعود بالفائدة المباشرة على الكيان الصهيوني، لأن الجانب الفلسطيني حسب الخطة سيكون له 50% من المبلغ الذي من المفترض أن تساهم الدول العربية النفطية بـ80% منه، هذا يعني أن 25 ألف مليون ستصل إلى الجانب الفلسطيني عن طريق بنوك الكيان الصهيوني ومؤسساته المالية، وكون الإدارة الأمريكية لا تحتاج لموافقة السلطة في رام الله أو غزة لتنفيذ خطتها، فإن جناحي السلطة سيستفيدان وسيتم تدجين " الفئات المتمردة" وخاصة في سلطة غزة من خلال الإغداق المالي وتعميم الفساد لخلق واقع مشوه يلائم الأهداف المرجوة، وما تقوم به حكومة قطر ، وكيل الإمبريالية، وبالتعاون مع كافة الأطراف المعنية بما فيها سلطة محمود عباس، إلا الصورة والنموذج لما ستكون عليه " اللوحة" في المستقبل.
يتضح بشكل لا لبس فيه حجم الاستهدافات الاستراتيجية لهذا المشروع الإمبريالي وطنياً وإقليمياً، ومن يعتقد أن المستهدف هو " منظمة التحرير الفلسطينية" يقزم في الواقع أهداف هذه الصفقة، لأن " المنظمة" هي جثة هامدة حرقتها نيران اتفاقيات أوسلو وملحقاتها وسلطتها، ولا أمل من " إحيائها" والتي فقدت أهليتها التمثيلية للشعب بعد أن اعترفت بشرعية كيان " عدوها" وتنازلت له عن 80% من أرض الوطن، وليس المستهدف أيضاً، نظام أو سلطة أو مدينة أو عاصمة، إن المستهدف هو وحدة الشعب ووحدة القضية ووحدة الأرض، وأبعد من ذلك وحدة الوطن العربي وأقطاره أي تدمير الفسيفساء الوطنية والقومية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الإمبريالية الصهيونية.
إن ما يُسمى صفقة العصر، هي في الحقيقة، أعلى مراحل الاستراتيجية الاستعمارية للوطن العربي، التي لم تكتفِ بوضع الخرائط والتفاصيل بل حددت الأدوات التنفيذية وميكانيزم وآليات العمل القادرة على تجميع ومراكمة القوى التي ستنخرط فيها، وأخطر فصولها هو ما يستهدف القضية الفلسطينية وفلسطين كوطن للفلسطينيين، بسبب وقوعها تحت الاستعمار الاقتلاعي الصهيوني المباشر، وما يمثله الكيان الصهيوني من قوة بطش وتدمير فاشية وعنصرية، وأداة رئيسية لتنفيذ هذه الصفقة، من جهة، بالتعاون والتحالف المباشر مع الأنظمة الرجعية العربية وعلى رأسها حكام السعودية، هذه الأنظمة التي أشهرت علاقاتها وتحالفها مع الصهيونية وكيانها الاستعماري ( إسرائيل) مما ساهم في إحداث خلل هائل على موازين القوى في المنطقة لصالح معسكر الأعداء، ومن جهة أخرى الاتكاء على طرف فلسطيني، موجود ومهيأ موضوعياً للتعاطي مع هذه الصفقة، بشقيها الاقتصادي " ورجال الأعمال الفلسطينيين الذين حضروا مؤتمر البحرين ومعظمهم مقربون من سلطة عباس يُشكلون النموذج المصغر والطليعة التي ترسم ملامح القيادة السياسية الرسمية" للمستقبل.
من هنا، على برنامج المواجهة والمجابهة يجب أن يكون هو أيضاً، أعلى وأرقى من برامج المراحل السابقة، لأن الهبوط بالبرنامج والأهداف، يتبعه هبوط بالوسائل والأدوات، ويذيب الفوارق المفترضة بين القوى التي هي أو التي تدعي أنها ضد صفقة القرن، لصالح سياسة التساوق ومن ثم الانخراط في صفقة القرن وفرض " السلام" على الطريقة الأمريكية "الإسرائيلية".
إن المرحلة تتطلب وتفرض صعود قوة طليعية، حزب ثوري طليعي، قادر على رسم خريطة البديل وشق طريق التحرير فلسطينياً، وفي كل قطر عربي، مما سيساهم في سلخ الجماهير الشعبية عن سياسات وبرامج القوى المستسلمة والخائنة وكسبها للدفاع عن مصالحها الحقيقية الوطنية والطبقية، التي ستفرض الوحدة الوطنية الشعبية والميدانية في فلسطين أولاً، مما سيكون له أثره وصداه على الصعيد القومي. فهل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، الأكثر إعداداً وتكويناً وبناءً وصلابةً، وصاحبة التاريخ والتجارب الفريدة لأكثر من خمسين عاماً، لديها الرغبة والاستعداد أن تكون رائدة المرحلة؟ نعم هذا هو الخيار فلنختاره مهما كلف الثمن، كي يزكي التاريخ صدق وأحقية الرصاصة التي صدحت يوم 11/12/1967.
انتهى