Menu

"كورونا".. تضع الصراع الأميركي – الإيراني على المحك

محمد أبو شريفة

نُشر هذا المقال في العدد 13 من مجلة الهدف الرقمية

يبدوا أن جائحة كورونا جاءت في مفصل تاريخي بحيث حالت دون تطبيق استراتيجيات وسيناريوهات يراد تطبيقها وتنفيذها في المنطقة والعالم. صحيح هي كارثة للإنسانية في وضعها الحالي لكنها في المدى المتوسط والبعيد قد ساهمت إلى حد بعيد في تبريد الصراعات القائمة في العالم؛ ومن بينها الصراع الأميركي – الإيراني، والذي تتجلى معالمه بقوة السيطرة والنفوذ بالمنطقة.

ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الصراع بين الطرفين لا يقل عمره الزمني عن أربعين سنة، شملت مختلف النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، واتسمت بالمد والجزر، ولكن في الأشهر الأخيرة تجدد الصراع ووصل إلى مستوى المواجهة وتسديد الضربات المباشرة بين الطرفين. فالولايات المتحدة الأميركية قد فعّلت كل سياسات المواجهة مع إيران وحصرتها في خانة واحدة، وهي أن تعلن طهران استسلامها لواشنطن، وهذا لم يحدث إلى الآن، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الأثناء، هل الولايات المتحدة ماضية في مسعاها نحو فرض سياساتها العقابية المتعلقة بإيران في ظل جائحة كورونا، بالرغم مما خلفته من جروح وندوب في جسد أميركا؟ أم انها ستلجأ إلى تأجيل المواجهة المحتومة أو على أقل تقدير تبريد الصراع فيما بينهما؟

ثمة مؤشرات تقول بأن الولايات المتحدة بقيادة ترامب غير قادرة حاليًا على فرض سياساتها بالمطلق، فكل المشاهدات الحية لسلوك أميركا تثبت بالدليل القاطع أنها تختط لنفسها سياسات قائمة على الحماية والدفاع وليس الهجوم، بدءًا من المواجهة مع الصين وانتهاء باتفاقيات السلام مع طالبان أفغانستان، لكن من الواضح أن أميركا لن تتخلى عن سياسة فرض "الضغوط القصوى" وتضييق الخناق على إيران، لا سيما أن فريق ترامب يرى "كورونا" فرصة مناسبة لفرض المزيد من الإجراءات العقابية على الاقتصاد الإيراني، والتي تزامنت مع سياستها بعد الانسحاب من الاتفاق النووي (8/5/2018). وكلما خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتصريحات استفزازية تزداد وتيرة الأجواء اضطرابًا في الولايات المتحدة الأميركية بخصوص إيران، حيث يلوح دومًا بخيار الحرب التي يجب أن تحظى بقبول شعبي أميركي، وهذا ما تسعى إدارته للحصول عليه لضمان خوض الحملة الانتخابية لفترة رئاسية ثانية، والتي من المفترض أن تنتهي ولايته في 20 يناير 2021.

فبالرغم من إعلانه الالتزام بوعده الانتخابي بعدم شن حروب أخرى، إلا إنه يلجأ بين الفينة والأخرى إلى التلويح به لتحقيق أغراضه بتعديل الاتفاق النووي الإيراني، والحد من نفوذ إيران، وطمأنة تل أبيب وحلفاءه بأن واشنطن تقف بجانبهم في أي مواجهة محتملة ضد طهران، بالإضافة إلى استمرار ابتزاز الأموال من بعض الدول الخليجية.

وفي الوقت الذي يجري فيه التركيز بالمنطقة على مكافحة جائحة كورونا، نجد أن واشنطن تركز على إيران وما لديها من ملفات داخلية وخارجية، واتخاذ إجراءات عقابية لتشديد الحصار عليها وتقييد حركتها؛ من خلال فرض العقوبات على شرايينها الاقتصادية الحيوية، تمثلت مؤخرًا بإعلان إدارة ترامب عن حزمة عقوبات بحق قطاع البتروكيماويات الإيراني، شملت مجموعة (خليج فارس للبتروكيماويات) التابعة للحرس الثوري، والتي تعد الأكبر في هذا المجال، واستهدفت العقوبات أيضًا نحو أربعين شركة أخرى تعمل في ذات القطاع، بالإضافة إلى شخصيات سياسية ورجال أعمال. وهذا الإجراء يهدف إلى تضييق الخناق على الواردات النفطية والبتروكيماوية وحرمان الاقتصاد الإيراني من أكثر من 50% من مصادر الموازنة العامة. وأيضًا فرضت في ظل "كورونا" حزمتين جديدتين من العقوبات؛ الأولى ضد خمس شركات إماراتية بتهمة نقل النفط الإيراني، والثانية ضد عشرين فردًا وكيانًا في إيران والعراق، بتهمة الارتباط بالحرس الثوري، وصعدت حدة الاتهامات بين الطرفين منذ الأيام الأولى لانتشار الوباء، واتهمت أميركا إيران بالتستر على وصول "كورونا"، وردت إيران عليها باحتمالية وقوف الولايات المتحدة وراء صناعة ونشر الفيروس في العالم. وحالت العقوبات الأميركية المفروضة على إيران دون مكافحة "كورونا" بالشكل المطلوب وصعّبت الأمر على الحكومة في طهران، والذي استثمرته دبلوماسيًا على نطاق دولي واسع لمضاعفة الضغط على إدارة ترامب لرفع العقوبات أو تعليقها في هذه الظروف الحرجة، واستمرت لهجة التجاذبات والمناكفات بين الطرفين.

فبالرغم من تزايد عدد الإصابات والوفيات بينهما بسبب تفشي الوباء وتشديد العقوبات على إيران، استعدت الولايات المتحدة تقديم خدمات طبية لطهران، إلا أن الأخيرة رفضتها جملة وتفصيلاً، واصفة العرض بأنه "منافق". ووصف علي خامنئي المساعدات الأميركية المعروضة بـ "السم"، وقال إن "الأميركيين يريدون إرسال كوادر طبية إلى إيران، لا لمساعدة الإيرانيين على مواجهة وباء كورونا المستجد، بل للتأكد من أن الفيروس الذي صنعته أميركا في مختبراتها خصيصًا لاستهداف الإيرانيين، سيقتلهم بالفعل". في حين أكد القائد العام للحرس الثوري الإيراني، الجنرال حسين سلامي، استعداد إيران تقديم المساعدة لواشنطن. وفي المقابل من هذه المواقف المتشددة؛ صرح محافظ البنك المركزي الإيراني، عبد الناصر همتي (25/3/2020) بشأن احتمال تحرير جزء من الأرصدة الإيرانية المجمدة في مصارف بعض الدول، وكما هو متعارف عليه فلن يفرج عنها إلا بموافقة أمريكية، ما أثار شكوك المراقبين عن إمكانية وجود تفاهمات بين الطرفين تجري من خلف حجاب، وبعيدًا عن لغة التصعيد وكيل الاتهامات. وبعدها بأيام أعلن همتي في (9/4/2020) أنه تم رفع التجميد عن أرصدة بمبلغ 1.6 مليار دولار تعود للبنك المركزي الإيراني لدى بنك "كلير ستريم" في لوكسمبورغ، وأكد أن هذه الأموال ستستخدم لشراء "السلع الأساسية في مواجهة "كورونا"، كالأدوية والتجهيزات الطبية وحاجات المواطنين الضرورية". إذًا كيف يمكننا الآن وصف الصراع في ظل الجائحة مع إيران؟

يبدو إن الطرفين في حالة تناغم غير معلن والمؤشرات كثيرة، وأبرزها يكمن في الملفات الساخنة في المنطقة، والتي كانت تحظى سابقًا - قبل كورونا- بتأثير إيراني في مجرياتها؛ ومنها عودة المفاوضات بين السعودية والحوثيين لإنهاء الصراع في اليمن، وغض الطرف عن المرشح العراقي لرئاسة الوزراء مصطفى الكاظمي، والذي يحظى بالرضى الأميركي. فيما لم تتحرك إيران لإنقاذ لبنان من مصيره المحتوم في مواجهة صندوق النقد الدولي ونظام المصارف الأميركية، والذي بات راهنًا بمثابة السيد الحاكم في لبنان. أما الملف الفلسطيني المجمد أصلاً فهنالك مؤشرات وإن كانت في أجنتها الأولى تشير على احتمالية ولادة صفقة تبادل أسرى بين حركة حماس وكيان الاحتلال الإسرائيلي.

أمام هذه الأوراق جميعها نرى أن ثمة مكان للتفاهم بين طهران وواشنطن بعيدًا عن التوتر، وربما في خريف هذا العام ومع انطفاء شهوة "كورونا" بابتلاع البشر نشهد عودة المفاوضات بين الطرفين لترسيم وتحديد النفوذ بالمنطقة، لا سيما أن الرياض قد أثبت بالدليل القاطع فشلها الذريع بتطبيق سيناريوهات أميركية بالمنطقة، والطرف الضعيف بنظر ترامب عليه أن يخرج من سباق السيطرة والنفوذ ليحل الطرف الأقوى مكانه.

في الواقع تساؤلات عديدة تفرض نفسها على مضمون الصراع الإيراني – الأميركي في ظل اقتحام وباء كورونا لمعقليهما السياسي والاقتصادي دون سابق إنذار، فهل ثمة جدية لديهما في الذهاب نحو المواجهة في هذا التوقيت؟ أم أن قواعد اللعبة "الكورونية" ستفرض معادلة تفاوض جديدة بين الجانبين؟ را